خليل المعلمي
سيظل الأديب الفلسطيني في تحد ونضال وجهاد وهو يواصل إبداعاته المتنوعة ليظهر للعالم بشاعة وعنجهية الكيان الاستيطاني عبر جنوده ومستوطنيه، ففي تحد جديد لسجانه الإسرائيلي، يصدر الأسير باسم خندقجي، المحكوم بثلاثة مؤبدات الجزء الثاني من روايته “قناع بلون السماء” التي حازت على “جائزة الرواية العربية” في دورتها الـ 17، وأعلن عنها في أبريل الماضي، ويحمل الجزء الجديد الصادر عن دار الآداب عنوان “سادن المحرقة”.
في الرواية الجديدة، يظهر اليهودي الأشكنازي “أور شابيرا”، الذي كان الفلسطيني باحث الآثار “نور الشهدي” “بطل الجزء الأول” قد عثر على هويته في معطف أسود مستعمل اشتراه، وتقمص اسمه واستخدم هويته ليلتحق ببعثة أثرية، “أور” سيكون محور الرواية الجديدة، وهي مفاجأة للقارئ، الذي لم يكن يعرف عن هذا الشخص شيئاً على الإطلاق وظنه مجرد اسم يستخدمه الشهدي وتنتهي حكايته.
الشخصية الرئيسية
من مطلع الرواية، نعرف أن أور (37 عاماً) كان من نخبة لواء المضليين في الجيش الإسرائيلي، شارك في حرب غزة عام 2008م وحرب لبنان عام 2006م، حيث نجا من الموت بأعجوبة في بلدة بنت جبيل، بعد أن قتل من معه، وبقي أياماً بين الجثث، وهو مصاب بعد كل ما عاناه بـ”اضطراب ما بعد الصدمة”، لذا تم تسريحه من الخدمة، والترخيص له بتعاطي الماريغوانا، وها هو يتردد للعلاج عند طبيبته النفسية “هداس” التي تنصحه بأن يكتب كل ما يخطر له على دفتر صغير، كي تتوصل معه إلى “نقطة التعيين” أو العقدة الأساس.
بمرور الأحداث، نكتشف خلفيات “شابيرا” وأزماته الشخصية والعائلية المركبة والده في غيبوبة، وأمه مثل جديه ماتوا بفيروس “كورونا”، وأخوه الأكبر “جدعون” قتل أثناء تأدية خدمته العسكرية في مخيم في رام الله وخاله قضى محارباً في سيناء عام 1973م.
بروفايل نموذجي
لدى “اور” بروفايل نموذجي لشخص إسرائيلي، ليس فقط من حيث الصلة العضوية بين عائلته والجيش أو الحياة العسكرية، ولكن أيضاً هو واحد من أحفاد الناجين من المحرقة النازية، وتربى على ذاكرة المحرقة وذيولها، وإن نشأ في عائلة علمانية لا علاقة لها بالدين، إلا أن ذاكرته مضمخة برائحة مخيمات التعذيب التي لم تتوقف جدته عن الكلام عنها، هو نفسه زار مخيم الإبادة النازي في بولندا ولا تزال تلك الزيارة، على الرغم من أنها كانت وهو في المدرسة، تؤرقه.
تاريخ مليء بالعنف والتراجيديا، كان والده عسكرياً فأصر أن يلحقه وأخيه جدعون بالجيش، وهو ما يجعل “أور” يتخيل باستمرار الفظائع التي يمكن أن يكون قد ارتكبها، ويحاول أن يفهم منه ذلك، حتى بعد أن دخل في غيبوبة.
عبء نفسي ثقيل، يرزح تحته أور، نراه متعباً في منزله في “جفعات شاؤول”، خصوصاً حين يكتشف أن اسمها العربي هو “دير ياسين” بكل ما يحمله اسم المكان من ذكريات دموية وسمعة مرعبة تزداد هلوساته، يعيش منعزلاً دون أصدقاء، بلا نوم، يحاول مكافحة أخيلة تظهر له، تثير في نفسه الرعب.
تطارده الأشباح، وما يسمعه من جرائم ارتكبت، لعل أحداً من عائلته ارتكب أفعالاً شائنة كل شيء يدعو للأرق، حتى أحلامه، لا يعرف لماذا يراها بالعربية منذ سنتين، فلجأ إلى معلمة فلسطينية، تعلمه اللغة العربية لعل هذا يقربه من فهم نفسه وما لا يقوله، إنها قد تكون في لا وعيه، طريقة لفهم من حوله، إضافة إلى أعراض ما بعد الصدمة، بدأت تظهر عليه علامات انفصام انتقاله إلى منزل العائلة في تل أبيب، هرباً من لعنة دير ياسين، ليس كافياً ليخرجه من الجحيم.
الربط الروائي
ينجح باسم خندقجي بقدرته الساحرة على الربط بين جزئي روايته، فإذا كان في الجزء الأول قد نجح في رسم سيكولوجية الشخصية الفلسطينية عبر “نور الشهدي”، والدخول إلى دهاليزها، من خلال استقراء أزمة الهوية والوجود الملتبس، فهو هنا يفعل العكس، هذه المرة يأخذنا في رحلة إلى أعماق شخصية “أور شابيرا”، بكل ما تنطوي عليه من أسئلة وضياع، واستفهامات، ومحاولة فهم للتاريخ المتصدع، وعلاقته بالواقع المنفصم، وتكاد تكون الرواية كلها، محاولة بحث عن الذات، وعقد مصالحة مع مكونات في تركيبة الشخصية، من الصعب الجمع بينها.
فعندما يعرف “أور” بالصدفة أن هويته التي ضاعت في جيب معطف أخيه جدعون وقعت في يد شخص آخر، وأنه استخدمها بالفعل، وعمل بموجبها، يبدأ البحث الفعلي وتتوالى اكتشافاته ومغامراته لمعرفة حقيقة ما حدث، ومن هو هذا الشخص المجهول؟ وماذا فعل بعد أن تقمص شخصيته؟ كل ذلك سيساعده على بدء فكفكة أزماته الشخصية، فيظهر نور الفلسطيني في النصف الأخير من الرواية.
الوجه والقناع
تُسجل للكاتب، مهارته في إعادة استخدام أدوات الجزء الأول نفسها، بطريقة جديدة، فهو يعيد إحياء صاحب الهوية اليهودي الذي لم يكن له أي وجود فعلي في الجزء الأول، ويبني له شخصية وعائلة وحياة كاملة وتاريخاً مديداً، كما أنه يجعل اللغة العربية محوراً من المحاور الرئيسية، تماماً كما كانت العبرية في الجزء الأول، ونرى الكاتب في النصين، يركز على استبطان الجانب النفسي، وما يدور من حوارات ذاتية، في محاولة لولوج الدواخل المركبة سواء في الشخصية الفلسطينية أو الاسرائيلية.
في التوقيت الحساس
تأتي “سادن المحرقة” بصدورها في هذا التوقيت تحديداً، رغم أنها أنجزت قبل السابع من اكتوبر، وكأنها تجيب عن أسئلة كثيرة، صارت تتردد على الألسن، والملاحظ أنه يحاول من خلال استفهامات “اور شابيرا”، الإجابة عن أسئلة من نوع: لماذا كل هذا العنف عند الشخصية الإسرائيلية؟ أو ما الخلفية التي تجعل مجتمعاً يفكر على نحو انتقامي؟ وفي محاولة من “أور” للعثور على إجابات، يتحاور مع معلمة اللغة العربية، ويصطدمان باستمرار، يكتب على دفتره وكأنما ليفهم، يحاول أن يستنطق والده تكراراً، وهو في غيبوبته، عن تلك الحادثة الشهيرة في النقب للاعتداء الجماعي على فتاة صغيرة، من قبل الجنود، ويخشى أن يكون والده مارس نوعاً من هذه البشاعات.
الأسير المتحرر
كتب باسم خندقجي هذه الرواية بعد مرور 20 سنة من عمره خلف قضبان السجن لكنه متحرر من الجدران، كما في الجزء الأول ويسطر حكايته، مثل طليق يحب التجول في الشوارع، يصف لنا القدس وتل أبيب، يجلس في المقاهي، ونتساءل كيف يمكن لسجين، عاش حالات اضطهاد قصوى وعاني من سجانه ما عانى، يمكن له ليس فقط أن يتقمص عدوه، وإنما أن يسخر قلمه للكتابة عن معاناته، بل يُقدّم صورته ضحية أكثر مما هو مستعمر مغتصب، ومرتكب جرائم؟.
اعتقل باسم خندقجي في 2 نوفمبر عام 2004م في عمر الـ 19، أصدر ديوانين و3 روايات “نرجس العزلة” عام 2017م، و”خسوف بدر الدين” عام 2019م، و”أنفاس امرأة مخذولة” عام 2020م، ونشر أكثر من 200 مقالة، وأكمل دراسته في السجن، ومع صدور روايته “قناع بلون السماء”، وعدنا أنها ستكون ثلاثية تحمل عنوان “ثلاثية المرايا”، أي أننا لا نزال بانتظار جزء آخر، وهو ما يبرر النهاية المفتوحة والمعلقة التي تنتهي بها “سادن المحرقة”.