مرثية حزينة في الفقيد د. نزار الحديثي -يرحمه الله-

 

الثورة / محمد الجوهري

لعل من نافلة القول الحديث عن الوفاء كقيمة أخلاقية إنسانية يتميز نفر من الرجال الصماصيم بالتوافر عليها والاحتفاظ بها، كسلوك يرسم ملامح كينونتهم الباذخة كأعلام ترسخ في مجتمعاتها مداميك الرقي الإنساني في زمن يشهد انزياحات تسطيحية تعلي (التفاهة) كسمة طاغية في التعاطي مع كل ما هو قيمي وأخلاقي يستحق التبجيل الذي تفترضه السوية الفطرية للبشر كما أسسها الخالق تبارك وتعالى في نفوس عباده سبحانه في عليائه رب العرش العظيم .

كان لابد من تسطير التوطئة أعلاه للولوج إلى قراءة صلب محتوى يتمظهر فيه الوفاء بين القلة النادرة من الناس المحظوظة التي وفقها الله سبحانه وتعالى للفوز به والحظ هنا كما جاء في قوله تعالى : (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) [سور فصلت : الآية ٣٥]. من اجل أن نعلم أهمية التوافر على (الحظ) كهبة ربانية عظيمة ربطه مقروناً مع الصبر أهم العبادات تقرباً إلى جبار السموات والأرض، رضاء بما قدر وقضى على عباده من ابتلاء يستصعب على كثر منهم الصبر عليه أو القبول به كامتحان رباني حتى يميز الخبيث من الطيب بين عباده فيصطفي الذين صبروا منهم .

لنا في امثله وأشعار العرب وتراثهم المدون شواهد كثيرة حيث نجد منه على سبيل المثال ما ذكره الشاعر والمتفلسف الصوفي صفي الدين الحلبي” (۱۲۷۷ – ۱۳۳۹م) عن المستحيلات الثلاثة التي سمعنا وقرأنا عنها كثيراً، لكن استعصى علينا رؤيتها بتجسيد ملموس على ارض الواقع والتي هي “الغول” والعنقاء والخل الوفي”، وقد كتب عنها الكثير من السرديات شرحاً وتوصيفاً ولكن ما يهمنا هنا هو الخل الوفي) حيث أن في ذلك إشارة إلى أهمية (الوفاء) كقيمة أخلاقية إنسانية أصبحت نادرة ويصعب رؤيتها، بسبب التكاليف الباهضة التي لا يقدر على تحملها سوى (أولي العزم من الرجال الذين قرروا أن يكونوا من أهل الوفاء)، لأنهم ابتغوا حقاً رضوان الله جلا جلاله للفوز بخير الدنيا وحسن ثواب الآخرة فقط كون الوفاء ليس سلعة لها سعر تبادلي، بل هي قيمة أخلاقية لا ينتظر أصحابها أثمانها بل هم يتبادلونها مع من هم أهل امتنان وعرفان بجميل الأوفياء فلا وفاء يمنح لناكري الجميل والمعروف وتأسيساً على ما تقدم يمكننا الولوج إلى موضوع التناول بكل يسر وسلاسة لنفصل فيما احتوته ثناياه من أوجه لمشاهد لها دلالاتها السلوكية الراسمة لعظمة الوفاء وأهله، بالرغم من ندرتها المشاهد بدلالاتها اليوم كما في الأمس وفق إقرار فقيد الصحافة اليمنية المغفور له بإذن ربه “حسن عبد الوارث” في مقالين له يرثي فيهما ذاته، حيث أوضح أن الوفاء) الذي بحث عنه بين الناس، ولم يجده في واقع الحياة لأنه قد تموضع في النصوص الأدبية وسرديات فروعها المختلفة إلا فيما ندر وعند من رحم ربي” من عباده، ولعل كاتب هذه المرثية التي نحن بصدد

تقديم قراءة متأنية لها هو واحد ممن رحمهم ربي …. والله اعلم واعظم فلسنا بوارد التزكية لأحد على الله سبحانه وتعالى فهو وحده من يزكي عباده المخلصين الذين اصطفاهم وأوسع لهم تمكيناً في الأرض قبل السماء في جنات النعيم المقيم .

بالعودة إلى مرثية د. عبدالعزيز بن حبتور لقراءتها بتأن في هذا التناول الذي نسأل الله سبحانه التوفيق في تسطيرها، التي نجده قد ولجها بالتذكير الوصفي لرحيل المغفور له بمشيئة الله تعالى … د. نزار بن عبد اللطيف بن سعود ناصر الحديثي، معلناً أن رحيله كان فقداناً وخسارة كبرى للوسط الأكاديمي | المعرفي والثقافي العربي عموماً كواحد من أعمدته البارزة عطاء غزيراً و فاعليه تدريساً وقيادة أكاديمية اشرافية على العديد من الأطروحات ورسائل الشهادات العليا في مساقي الماجستير – الدكتوراه في عدد من الجامعات العربية، فقد كان ذلك الوصف التذكيري الفخم ليس سوى إنصاف عادل لمكانة الفقيد وأدواره وتراثه الاكاديمي الباذخ كشفاً وتوثيقاً بانورامياً لتاريخنا العربي | الإسلامي هو حصيلة جهد نوعي استغرق الراحل الكبير جل سنوات عمره المزدحم بتلك الانشغالات الطيبة التي رفدت مكتبات الجامعات والمراكز البحثية الوازنة في دولنا العربية، ثم نجد الكاتب الفطن ينتقل ملتفاً في عدد من الإستدارات لجهة الإضاءة التاريخية ابتداء من ذكر تاريخ الوفاة يوليو ٢٠٢٤م ومكانها “بغداد” التي لم يبخل عليها بوصف العاشق بروعة جمالها ومكانتها بقلوب الأحرار من العرب والمسلمين، ثم نرى انتقاله لتحديد زمن التعارف بينهما واللقاءات الأولى تمت في منتصف تسعينيات القرن الفارط ولم يغفل ذكر أهداف زيارته بمعية رئيس جامعة عدن الأسبق وفقيدها البروف | صالح علي باصرة يرحمه الله، والتي كانت ذات طبيعة أكاديمية بالأساس ولكنها لم تخل من جوانب أخرى منها السياحي والتزود المعرفي تاريخياً  وروحانياً من خلال جولة في المراقد الطاهرة التي يحتضنها التراب العراقي للعديد من القادة العرب والمسلمين، ثم نجده يشرح بحب حميمية اللقاءات التي احتضنها مكتب الفقيد بعمادة كلية الآداب بجامعة بغداد العريقة وكيف كان كل لقاء يحمل ثراء عن سابقه بسبب جمال وتألق الروح التي كان الفقيد يتوافر عليها، وهي روح استثنائية لا يتوافر عليها سوى الاستثنائيين من البشر مشيراً لنا إلى أن المجايلين من زملائه وكذا طلابه هم وحدهم القادرون على ذكر مناقب الفقيد بإنصاف وعدل موضوعي، خوفاً من أن يقصر أي تقديم يسطره في الفقيد بالرغم من كم ما سرده من توصيف تطوع في تسجيله بكرم حب إنساني وفاء لرجل كان بذاته للوفاء عنواناً .

دعونا نقوم بعصف ذهني مشترك من خلال الإجابة على هذا السؤال البديهي الذي يتبادر إلى أذهاننا جميعاً والذي نصه : إلى ماذا يسعى الكاتب من وراء كتابته لهذه المرثية في فقيد غادر دنيانا) …؟؟ هذا إذا علمنا أن الكاتب قد دبج تعزية معتبرة رفعها لأولاد الفقيد وأسرته حال سماعه بخبر وفاة المرحوم بإذن الله حين كان رئيس وزراء حكومة الإنقاذ بصنعاء، واليوم يكتب عن الفقيد هذه المرثية وهو كذلك عضو في مجلس رئاسة الدولة اليمنية بصنعاء اعلى سلطة في البلاد، أليس هذا الفعل مستغرباً بل وجديداً في سلوك القادة من رجالات الدولة الذين يتبوأون اعلى المناصب في بلادنا …؟؟؟

بدون نقاش نجزم أن صديقي الفذ” كاتب هذه المرثية لا يسعى وراء أي شيء مما يطلبه كتاب المراثي أو يسعون اليه، لكنه “الوفاء” يا سادة أولاً كقيمة يجب إعلاء شأنها بين الناس حتى لا تضيع المرؤة بينهم وثانياً التجسيد السلوكي “للوفاء” كحق واجب إيصاله إلى أهل الوفاء ومستحقيه من ذوي الفضل من البشر. والفقيد د. نزار الحديثي تقبله الرحمن في عليين رجال له افضال لا حصر على شعبه وامتيه الغربية والإسلامية، والباري تبارك وتعالى يقول في محكم التنزيل “ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير” سورة البقرة الآية ٢٣٧ ، وفي سورة الشعراء (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الآية (۱۸۳)، انا لست رجلاً متبحراً في الدين لكنني على يقين من أن القرآن حمال أوجه ولست في وارد الفتوى ولكنني حرصت على الاتكاء على ما علمته من آيات قرآنية …. والله اعلم واعظم، فهل هناك من يجب اتباع أوامره وتنفيذ تعاليمه غيره جلا جلاله رب العرش العظيم، لذلك نجد أن صديقي الكاتب كان سباقاً في اتباع قول ربه سبحانه جلا شأنه بما علمه من أمور دينه ويقينه أن الدين المعاملة) وليس التنطع والجعجعة رياء الناس” .

استجابة لإلحاحات مشاعر الود والأخوة بينهما نرى الإصرار من الكاتب على مواصلة الإغذاق بوفاء حميمي، حيث وجدناه مستمراً في استعراض المناقبية الباذخة للفقيد يرحمه الله، قائلاً عنه بالنص: ( هذا هو النموذج للمعلم التربوي والعلمي والسياسي للإنسان الجميل و الجاد والمؤثر الذي ينقش اسمه وذكراه في عقول ووجدان من تعلموا على يديه والتقوا به وعملوا معه وعاشروه في حله وترحاله. كما كان المعلم البروفيسور / نزار الحديثي محباً لتاريخ الأمة العربية كلها، لكنه كان يعشق حد الجنون التاريخ الإسلامي لليمن، وأهل اليمن وعلماء اليمن وفقهاء اليمن وإسهامات اليمانيين في التاريخ الإسلامي، وكان يكرر في أحاديثه لنا بأنه لا توجد حملة علمية أو عسكرية أو أي مدد في تاريخنا الإسلامي إلا وكان لليمنيين دور كبير فيها، ولا يوجد قطر أو بلد إسلامي حديث النشأة في وصول الإسلام إليه، إلا وكان القادة والعلماء والفقهاء اليمنيون موجودين وحاضرين هناك، كما انه لم يغفل ذكر تفاصيل أخر حديث دار بينهما عشية مغادرة ابن الحديثي تغشاه الله برحمته لصنعاء الذي اسماه الكاتب بحديث الوداع الأخير، والذي اخبره فيه عن مشروعه الكبير والذي هو عبارة عن جمع موسوعي / توثيقي لتاريخ معظم علماء اليمن منذ عصر النبوة حتى عصرنا الحديث وقد شارف على الانتهاء منه، وسيكون هذا العمل في عدد من المجلدات الضخمة التي تستوجب البحث عن جهات داعمة تنهض بعملية  الطباعة لتلك الموسوعة التاريخية سواء أكانت هذه الجهات عراقية أو يمنية أو من أي قطر عربي أو حتى اجنبي أخر، فلا يجوز أن يتم إهمال طباعة هذه الكنوز المعرفية البالغة الأهمية، نسأل الله أن يعين أهله وأصدقاءه على أن يجدوا الجهة الكريمة التي تتكفل بعملية الطباعة تلك الموسوعة التاريخية الثمينة.

وسترسل الكاتب في الحديث عما انجزه الفقيد الكبير من ارث وازن يتمثل في العديد من الأبحاث والمقالات، وكتب عن اليمن وتاريخها الخاص، وكذا عن التاريخ الإسلامي على وجه العموم، البعض منها قد تمت طباعته ونشر والبعض الآخر لم تتم عملية طباعته لأسباب وظروف أخرى لا يعلمها غير الله، لذا وجبت المناشدة للجهات المختصة الرسمية وغير الحكومية المعنية بالعلوم والثقافة أن تدرجها في جداول أجندتها القادمة، لنقرأها ويقرأها الباحثون عن المعرفة والثقافة في أوطاننا العربية والمستشرقون في الغرب، ويمضي الرجل الوفي” باسترساله ذاكراً مناقب الفقيد النابغة يرحمه الله … بالقول إن علم بمكانة ابن الحديثي يصعب على الموت تغييبه عن ذاكرة الأجيال بما انجزه من أعمال ستظل خالدة وارثاً معرفياً سيبقى للاستزادة منه والانتفاع من مكنوناته ما تعاقب الليل والنهار، فبصماته وجهوده العلمية تعليماً وإشرافا اكاديمياً وتسطيراً لأمهات الكتب كلها حاضر في قاعات المحاضرات ومدرجات الجامعات وحتى بصحون الجوامع العامرة بذكر الله عز وجل والناهلة للعلوم من بطون ما سطره فقيدنا وكذلك هي محل نقاش في المنتديات الفكرية، ويختتم البروف | عزيز بن حبتور مهرجان الوفاء بالإضاءة على جوانب رائعة تخص من الاهتمامات والمهارات التي يحوزها الفقيد تقبله الله في عليين … حيث نجده يتحدث عن عدد من تلك الجوانب بالنص قائلاً : إن من يعرف المعلم نزار الحديثي عن قرب يعرف أن لديه هواية من أعظم الهوايات وهو اهتمامه بالزراعة وتحديداً زراعة وفرز فصائل النخيل العراقي ذائع الصيت والشهرة، وقبل مغادرته مدينة صنعاء اتصل بي هاتفياً، وقال لدي هدية عراقية ثمينة خصصتها لك، وفي الواقع فاجأني بهذا الخبر السار، وقال لدي مجموعة منتقاة ونوعية من فسائل العراق العظيم، أريدها هدية خاصة تزرعها في أرض أهلك في شبوة، وكانت الهدية عبارة عن أزيد من ۲۰۰ فسيلة من أجود أنواع نخيل العراق، أخذتها منه ممنوناً شاكراً وبعثتها للأهل والأصدقاء ولي كي تزرع في مزارع محافظة شبوة، وكما أخبرني الأصدقاء بأن عدداً من تلك الفسائل قد أثمرت رطباً عراقياً جنيا ذات مذاق خاص.. رحمة الله عليك يا صديقي العزيز / نزار الحديثي حياً وميتاً وستبقى كما أنت مصدر الهام وحلما للعديد من الطلاب والمفكرين وحتى للبسطاء ممن وصلتهم إحدى فسائلك العراقية الراقية)، كان ذلك هو ختام مسك مهرجان الوفاء الذي أتحفنا به صديقي الكاتب الفذ في حضرة حضور من لم يغب بموته الجسدي عن ذاكرة بني أمتيه العربية الإسلامية الذين قدم لهم حصاد عمر كان العطاء المعرفي التاريخي عنوانه الأبرز، لتسكن مطمئناً في برازخ الرحمن بجانب خير عباد الله أيها الماجد العراقي والعروبي النبيل .

تقبلك الله في عليين مع الصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا …

إنا لله وإنا اليه راجعون …

جامعة عدن

 

 

قد يعجبك ايضا