شهادات مروعة من شمال غزة لناجين لفظهم الموت وآخرين ينازعونه كل ساعة
شلاء في الشوارع تنهشها الكلاب ومعتقلون يستخدمون دروعاً بشرية ونساء يلدن تحت القصف
الثورة / افتكار القاضي
تعيش عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية، أوضاعا مأساوية وكارثية في مخيم جباليا وبيت لاهيا، شمال قطاع غزة، الذي يشهد حرب إبادة جماعية وحصاراً مطبقاً منذ 21 يوما، ويعيش قرابة 200 الف تحت النار الذي لا يتوقف والمجازر اليومية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق السكان، ومنع دخول أي مساعدات غذائية للمحاصرين، واجبار الآلاف على النزوح القسري من منازلهم ومن مراكز ومدارس إيواء النازحين، الذين يطلقون نداءات استغاثة يومية للامة الإسلامية وللعالم لإنقاذهم من أهوال الاحتلال وجرائمه الوحشية التي خلفت اكثر من 850 شهيدا وآلاف الجرحى خلال ثلاثة أسابيع فقط
“الثورة” تسرد بعضا من الجرائم والفظائع الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بحق سكان شمال غزة بشهادات مروعة، من أفواه محاصرين يشارفون على الموت وناجين لفظهم الموت من بين فكيه.
أم عمر التي وضعت طفلتها خلال الحصار في مدرسة كانت تنزح فيها شمال القطاع، تقول “في فصل دراسي وعلى الأرض بعد أسبوع من الحصار، قامت سيدة بمساعدتي على وضع طفلتي، لقد مررت بأصعب ميلاد يمكن أن يمرّ على امرأة في العالم”.
قضت أم عمر بداية نفاسها وهي تحت وطأة الحصار، لم تتلق الطعام ولا الشراب ولا الرعاية المناسبة، وتقول “بعد أسبوع من ولادتي خرجتُ مع أطفالي الخمسة وحدنا، وتركتُ زوجي في الحفرة التي خصصها الاحتلال للرجال، كان الجندي يصرخ كلما حاول أبناؤه الاقتراب للبحث بين الرجال عن والدهم، ويقول “ورا ورا” (أي ابتعدوا للخلف)!
وهذا يوسف المصري زوجها، الذي فرّ من جنود الاحتلال بعد 5 أيامٍ من الاعتقال استخدموه فيها درعا بشريا، يروي تفاصيل اعتقاله التي فضح وجهه وإنهاك جسده فداحتها، حيث كان نازحا في مدرسة تؤوي مئات النازحين بجوار المستشفى الإندونيسي، حيث احتجزته قوات الاحتلال بعد التحقيق معه معصوب العينين ومكبّل اليدين.
يقول المصري : ” كانت القوات التي اعتقلتني تدفعني دفعا نحو مدارس النازحين وتجبرني على دخولها غرفة غرفة لتفقّد وجود مقاومين أو عتاد، “وبعد التأكد من خلو المدرسة من المقاومين والأسلحة كانوا يحرقونها كلها، حتى لا يعود الناس إليها”.
وبين مهمة وأخرى كانوا يعيدون عصب عينيه وتكبيل يديه، لكن أُذنيه كانتا مكشوفتين لتسمعا صرخات المئات من الفلسطينيين المعذّبين تحت وطأة وعذابات التحقيق الإسرائيلي.
ويضيف: قبيل الفرار ناداه ضابط صهيوني وسلمه مناشير (تهديدات ورقية) ليحملها إلى مستشفى كمال عدوان، تطالب من فيه بالإخلاء، ليتمكن هناك من الانخراط مع العشرات الذي أخلوا المستشفى والنجاح بالفرار معهم، لكن طائرة مُسيَّرة أطلقت النار عليه وأصابته في قدمه.
كان لدى المصري الذي روى لـ”الجزيرة” مُتسع للخروج من المدرسة التي يأوي إليها قبل حصارها، لكنه برر عدم خروجه بقوله “نحن مدنيون ولا ملجأ لنا إن خرجنا، كما أن زوجتي كانت على مشارف وضع جنينها ولا تستطيع السير وحدها مع أطفالنا الخمسة”.
جنود بلا أخلاق
“أشوف شعرك يا حلوة” قال جندي صهيوني لأم عبيدة، وهو يحاول مدّ يده لمقدمة شعرها المنسابة من تحت حجابها، لتشيح بوجهها وتصرخ، ويصرخُ زوجها المكبّل من أعمق نقطةٍ في قلبه، فيضرب الجندي ببسطارة قدمه المصابة بشظية قذيفة أطلقها جنود الاحتلال قبل هجومهم على المدرسة.
يتجول الجنود بين السيدات المحتجزات في ساحة المدرسة ويقذفونهن بألفاظ نابية ويتشمتون بهن “مش بدكم حماس؟ خلي حماس تنقذكم!”، صرخت إحداهن بصوت أعلى من أصواتهم “لا إله إلا الله”، فاقترب منها أحدهم وقال “اخرسي بلاش أقتلك!”.
تروي أم عبيدة هذه الشهادات، وعيناها تجوسان في الفراغ كأنها تصف مشهدا من فيلم رعب لن تتعافى منه كما تقول، “صارت طفلتي تبكي تريد ماء، طلبت من الجندي ماء وقد كان معهم كميات كبيرة منه، ليجيبني متهكّما: بعد يومين سأعطيكِ!”.
كان الخروج من المدرسة بمثابة ولادة جديدة للسيدة النفساء ولزوجها المصاب الذي سار متكئا على كتفها وباليد الأخرى تحمل طفلتها وحقائبهم، وهما يسيران مشيا على الأقدام لأنهما لا يملكان مالا يدفعونه لركوب مواصلات تُقلّهم لوسَط المدينة.
جلست أم عبيدة في ممر تحت درج المدرسة، وهو المكان الذي وجدته فارغا فيها خاليا من النازحين، وفي حِجرها تحمل ابنتها التي تعاني من سوء التغذية، وتقول “هربنا من الموت ولم نكن نفكر إلا بالنجاة منه، وحين وصلنا أدركنا أننا سنموت جوعا”، وتتابع: “وصلنا صفر اليدين لا نملك شيئا، استلفت من الناس حولي فرشةً لثلاثتنا ومن شقيقتي حليبا وحفاضات”.
قهرٌ مركب
بصوتٍ مرتجف، تروي أم محمود ما حدث معها وهي تحاول ابتلاع حزنها ودمعها، وتقول “نادت الطائرة المسيَّرة “الكواد كابتر” على من في مدرسة أبو راشد تمهلهم ساعة واحدة للإخلاء”، وتتابع: “قمنا بتحضير حقائبنا وهممنا بالخروج، حتى وصلتُ إلى الساحة مع زوجي وأولادي الستة، حتى انهالت القذائف على ساحة المدرسة لتفتك بـ3 من أبنائي!”.
قصة من جُمل قليلة، لم يكن هذا هو السطر الأخير فيها، تكمل أم محمود: “التفتَ إليّ زوجي وقال لي خذي باقي الأولاد واخرجي، كصاعقة نزل عليّ الأمر.. كيف تطلبُ مني أن أسير وأترك أشلاء قلبي ممزقة على الأرض!”.
قذيفة أخرى وصرخ زوجها باكيا “أقول لك اخرجي الآن”، دفعتها للرضوخ، لفّ الرجل جثمان ابنته بسجادة وحملها مع جثماني ولديه على عربة تجرها الحيوانات حتى تمكن من الوصول إلى مستشفى كمال عدوان، وبينما كان يواريهم الثرى سلكت الزوجة طريق نزوحها على قدمين رخوتين بجسد يجره من نجا من أبنائها جرا، وقلبٍ مثخنٍ دُفن لتوه معهم.
أشلاء على الطريق
“كلبٌ ينهش ذراع شهيد على الأرض، يجزها بأنيابه ثم يسير بها” مشهدٌ لم تستطع الحاجّة عزة الكفارنة أن تتجاوزه، لذا فقد قررت في طريق نزوحها دفن شاب في قارعة الطريق حين رأت اقتراب كلب نحوه.
شهادة تتشابه مع شهادة الناجية أم فهمي وهي تروي مأساتها: “أُجبرنا على السير من بين عشرات الدبابات في طريق ضيق مليء بالجثامين والأشلاء، على مرأى مئات الأطفال الذين كانوا معنا”
حوصرت أم فهمي 15 يوما في مدرسة ببيت لاهيا، وفق شهادتها لـ”الجزيرة” . وتسرد تفاصيل الحصار التي عاشوها قائلة: “مع اليوم الأول للحصار قمنا بإخلاء الطوابق العلوية، وتجمع كل النازحين في الطابق الأرضي هربا من بطش القذائف”، وتتابع: “كنّا نخبز الصاج ونوزعه على أنفسنا، لا نأكل وجبة غيره طيلة النهار ونحاول أن نقيم بها صُلب أجسادنا”، أمّا عن الشراب فقد كان المحاصرون يبللون شفاههم وألسنتهم تبليلًا فقط لتبديد جفاف حلوقهم، كما تضاعفت معاناة المرضى الذين نفدت أدويتهم والأطفال لنفاد حفاضاتهم، حيث صارت الأمهات تمزق من ثيابها وتستخدمها بديلا عن الحفاضات. وأمّا عن الأطفال فقد كانت السيدات في كثير من الأوقات لعدم قدرتهن على الحركة يضعن “جرادل/أوعية” ليقضي بها أطفالهن حاجتهم، لاستحالة التحرك والخروج بهم إلى المراحيض.
معاناةٌ عاشها المحاصرون في تفاصيل الحياة تختلف عن صنف آخر من المعاناة التي تعيش فيهم، والتي تروي أم فهمي جزءا منها: “عندي عشرة أولاد، لم يبقَ منهم معي إلا واحد، وهم مفرقون ما بين الأسر في سجون الاحتلال والحصار في الشمال والنزوح في الجنوب”، تربت بيدها على قلبها وتمسح عبراتها وتختم “كله بيهون وفدا فلسطين”!
دور “الكواد كابتر”
أم صهيب فقدت الاتصال بزوجها بعدما فرّت بأطفالها الخمسة، من بين برميلين يأمر الجنود السيدات بالعبور خمسًا خمسًا على نقطة لقوات الاحتلال، يقومون بفحصهن عن طريق كاميرات، يغربلون الرجال بين “امرُق/اعبر” أو “أوقف ع جنب”!
تعود السيدة إلى لحظة ما قبل النزوح، حيث دخلت عليهم الطائرة المسيرة الحربية “الكواد كابتر” من النافذة في مركز الإيواء لتصوير مَن في الغرفة، تقول: “كنت أتكور مع أطفالي بعضنا فوق بعض في زاوية الغرفة خشية أن تطلق المسيَّرة علينا الرصاص”.
لعبت “الكواد كابتر” خلال هذا الحصار دورا يصفه الضحايا بـ”القذر”، حيث كانت تصدر صوت صراخ رجال يقولون: “الحقونا الحقونا”، أو بكاء أطفال أو نحيب سيدات، ليخرج الناس نحو مصدر الصوت، فتباغتهم بالرصاص، وقد كانت تصدر أصوات آليات قريبة لتستدرج المقاومين، ومؤخرا سمعها الناس في بعض المناطق تبث أغاني عبرية مرعبة، عدا عن مهمات التصوير والتجسس وإطلاق الرصاص.
طوابير الأسى
تتعدى المأساة الغرف الموصدة، وتراها متجسدة في ممرات مركز النزوح وفي ساحاته، فهناك مئات الأطفال حُفاة الأقدام، يُمسكون بين أكفهم خبزا فارغا يوزعه سكان المنطقة على النازحين، يأكلونه بشراهة المحروم دهرا من طعام، وهم يصطفون طابورا حاملين جالونات المياه ينتظرون مرور سيارة تابعة لمحطات مياه الشرب.
يجلس مئات الذين وصلوا لتوّهم يحملون قهرا يفيض دموعا تحرق وجوههم الكالحة الشاحبة، وتبلل شفاههم الجافة المشققة، وتوحدهم الحيرة والتخبط، وتجمعهم ملامح وجع جديد لم يعيشوه طيلة عام من الحرب ونكبة جديدة رآها العالم -ولا يزال- على البث الحي والمباشر ويباركها إما بدعمه للاحتلال وجرائمه، أو بصمته المخزي، فصراخ الأطفال والنساء والشيوخ وآلام المصابين وجراحاتهم، وأشلاء الشهداء المتناثرة في كل مكان .. بات منظرا عاديا ومألوفا أمام عالم لا يستثيره ما يحدث، ولا يهمه ما يرى أو يسمع، وكأن لا حياة لمن تنادي .