الثورة / ناصر جرادة / وكالات
حرّكت عملية «طوفان الأقصى» عجلة الاندفاع نحو تفعيل سلاح المقاطعة على نحو غير مسبوق في تاريخ المقاطعة خلال فترة الصراع مع العدو الصهيوني، إذ لجأ الكثير من المسلمين وغيرهم حول العالم من المتضامنين مع الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سلاح المقاطعة كتعبير منهم عن رفضهم للجرائم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد الاحتلال الإسرائيلي، حيث شكّلت المقاطعة جزءًا فاعلًا من المعركة وألقت بتأثيراتها الثقيلة على كاهل الشركات والأطراف الداعمة للكيان الصهيوني، وعلى الواقع الداخلي لهذا الكيان المأزوم، لا سيما الاقتصادي.
وخلال عام من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة الذي تسبب في استشهاد وجرح الآلاف من الفلسطينيين، اثبت سلاح المقاطعة من جديد نجاعته وفاعليته، بدليل تأثر أرباح بعض الشركات العالمية نتيجة حملات المقاطعة التي كبدتها خسائر مالية كبيرة باعتراف الشركات نفسها، وتقول بعض الشركات التي لها نشاط في إسرائيل، ومنها «يونيليفر» و»نستله»، إن المبيعات تتراجع في البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
أبرز خسائر الشركات العالمية
أحدث المستجدات كانت عند شركة التأمين الفرنسية «أكسا»، والتي اضطرت لبيع استثماراتها في جميع البنوك «الإسرائيلية» الكبرى (ثلاثة بنوك) وكذلك من شركة «إلبيت» للتصنيع العسكري. وهذا الخبر جاء على لسان الرئيس التنفيذي للشركة في أبريل، والذي ذكر أنه «ليس لدى الشركة أي استثمارات في البنوك «الإسرائيلية»، مباشرة أو غير مباشر».
مطاعم «كنتاكي» هي إحدى الشركات التي تناولتها أيضًا التقارير، فقد صرحت، في أغسطس، عن انخفاض مبيعاتها بنسبة 3% في الربع الثاني من العام الحالي، وقال الرئيس التنفيذي لشركة «يام براندز» المالكة لسلسلة مطاعم كنتاكي إنّ هذا التراجع يعود إلى حد كبير لتراجع المبيعات في عدد من الأسواق نتيجة «الصراع في الشرق الأوسط» حسب قوله.. وهذا يُضاف إلى تصريح مطاعم «أمريكانا» التي تدير السلسلة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، والتي كشفت في نهاية يوليو أنها تبطئ خطط النمو لعام 2024م بعد انخفاض صافي أرباحها 41% في الربع الثاني.
تزامنًا مع كنتاكي؛ أعلنت شركة ماكدونالدز في 29 يوليو انخفاضًا بنسبة 1% في مبيعاتها في جميع أنحاء العالم، خلال الربع الثاني من العام الحالي، وهو أول انخفاض فصلي لها منذ العام 2020م، وشمل ذلك انخفاضًا بنسبة 1.3% في قطاع الأسواق الدولية المرخصة، وكحال الأولى، فقد عزت إدارة الشركة السبب في ذلك إلى تأثيرات الحرب الدائرة في المنطقة، ويأتي هذا الاعتراف بعد اعتراف سابق لرئيسها التنفيذي في بداية العام عن تأثر العديد من الأسواق الإقليمية بشكل ملموس بفعل المقاطعة.
الخسائر انسحبت، أيضًا، على شركة «ستاربكس» التي أقالت رئيسها التنفيذي لاكسمان ناراسيمهان في 13أغسطس، خاصة وأن سهم «ستاربكس» خسر ربع قيمته في السنة الأخيرة بما نسبته 17% لأسباب عدة أهمها المقاطعة، وقد صرّحت الشركة في 30 يوليو، بأنّ مبيعات المتاجر العالمية انخفضت 3% في الربع الثالث من العام الجاري.
شركة «نستله» كانت، أيضًا، من الشركات التي شملتها المقاطعة، والتي أعلنت أن مبيعاتها المعلنة في منطقة أفريقيا وآسيا انخفضت 6.8% في النصف الأول من العام الحالي، وقال الرئيس التنفيذي للشركة إنهم «يشهدون ترددًا مستمرًا من جانب المستهلكين في بعض الأسواق المختارة نتيجةً للوضع السياسي في الشرق الأوسط».
وشركات التكنولوجيا الفائقة لم تسلم هي، أيضًا، من تبعات المقاطعة، فقد ذكر موقع «كالكاليست الإسرائيلي» أن شركة «INTEL» لصناعة الرقائق قررت وقف عملية توسعة بقيمة 25 مليار دولار لمصنعها في “إسرائيل”، وأشار الموقع إلى أن موردي «INTEL» تلقوا إشعارًا بإلغاء العقود الموقّعة معهم، والتي كانت تنص على توريد المعدات والمواد اللازمة لتوسعة مصنعها الجديد في “كريات جات”، في جنوب فلسطين المحتلة.
بينما قالت “يونيليفر” البريطانية في فبراير 2024م، إن نمو مبيعات الربع الرابع في منطقة جنوب شرق آسيا تضرر بسبب مقاطعة المستهلكين في إندونيسيا للعلامات التجارية للشركات متعددة الجنسيات “على خلفية الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط”.
وقالت صحيفة «Financial Times» إنه “من مصر إلى إندونيسيا، ومن السعودية إلى باكستان، المستهلكون يتجنبون السلع” التي تنتجها شركات متعددة الجنسيات مشهورة في صناعة الأغذية والمشروبات، احتجاجًا على “دعمها لإسرائيل في الحرب على قطاع غزة”.
ووصفت الصحيفة البريطانية في تقرير نشرته في أغسطس 2024م، مقاطعة منتجات شركات عالمية كبرى بأنها “الأوسع انتشارًا في الذاكرة الحديثة”، مما “يؤكد على كيفية تصاعد الحملات الاجتماعية بشكل مفاجئ وتأثيرها على الشركات العملاقة”.
وأكدت تقارير صحفية أن مقاطعة منتجات شركات عالمية للأغذية والمشروبات في الدول الإسلامية تؤثر سلباً على إيرادات الشركات المتعددة الجنسيات ومشغلي امتيازاتها، مما يؤدي إلى تفاقم تأثير تباطؤ الاستهلاك العالمي على نتائجها المالية.
إذ وصف، أمري باهل ساندهو – الرئيس التنفيذي لشركة “أمريكانا للمطاعم”، التي تدير علامات تجارية مثل KFC، بيتزا هت و” كريسبي كريم” في الشرق الأوسط وكازاخستان، مدة وشدة مقاطعة منتجات شركات عالمية بأنها “غير مسبوقة” على حد تعبيره.
وقالت الشركة إن أرباح الربع الثاني انخفضت بنسبة 40% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، “رغم افتتاح 81 مطعمًا في النصف الأول من هذا العام”، متأثرة بحملات المقاطعة التي استهدفت الشركة في البلدان الإسلامية.
كما ذكرت شركة “مونديليز” لصناعة الوجبات الخفيفة أن المقاطعات أثرت على نمو مبيعاتها بنسبة 2% في الربع الثاني، في حين قالت “لوريال” إن المقاطعات ساهمت في انخفاض نمو مبيعاتها بنسبة 2% في النصف الأول من هذا العام.
هذه النتائج القوية والمؤثرة لعملية المقاطعة الاقتصادية، تشدّ الانتباه نحو المرحلة التالية للحرب القائمة، وكيفية العمل على استمرار حملات المقاطعة بهذا الزخم والوتيرة، ما يستدعي جهودًا مكثّفة من الحملات الفاعلة في هذا السياق في مختلف الدول العربية. ذلك؛ لأن دور المقاطعة ليس محصورًا بمراحل زمنية معينة، بل هو نضال مستمر.
أداة فاعلة
خلال عامٍ واحد، تمكنت المقاطعة من إثبات نفسها كأداة فاعلة بإمكانها ضرب البنى الاقتصادية للشركات الغربية الداعمة للاحتلال، وحتى للشركات الإسرائيلية العابرة للقارات والتي تتخذ أسماء مختلفة لتوريد منتجاتها، حيث كشفت نتائج الربع الأخير من العام الماضي، تراجع إيرادات أكثر من 200 شركة وانخفاضًا في قيمة الأسهم، وإغلاقًا في عدد من الفروع، وشملت سلاسل الأغذية والمشروبات وماكدونالدز وستاربكس وبرقر كينغ وكنتاكي.
أما نتائج المقاطعة الاقتصادية تراوحت بين تحقيق خسائر “معلن عنها”، كما في سلسلة مطاعم ماكدونالدز التي فقدت 7 مليارات دولار من قيمتها السوقية خلال النصف الأول من العام الجاري، وسلسلة مطاعم كنتاكي التي انخفض صافي أرباحها خلال المدة نفسها 41%، وسلسلة مقاهي ستاربكس التي انخفضت قيمة أسهمها بنسبة 17%.
إن نجاح المقاطعة بأشكالها المختلفة لن يُقاس يومًا بالاستجابة الكاملة لها، لا سيما مع ما تمثله من حرب على الرأسمالية الغربية وعقود من المصالح المشتركة بينها وبين كيان الاحتلال، اقتصاديًا ومجتمعيًا وسياسيًا وعسكريًا وأكاديميًا، ناهيك عن صعوبة تفكيك الروابط وحالة العضوية بين الغرب وربيبته، مع ما تتّسم به من أنماط الظهور والتخفي وصعوبة التتبُّع والانكشاف.
لكن النجاح الحقيقي لها هو تحولها من حالة عابرة إلى رواسخ ثقافية ومجتمعية في ذهن الأفراد والشعوب، مدفوعة بإحساسهم بضرورة اتخاذ موقف أخلاقي وإنساني تجاه الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، في ظل تراخي المجتمع الدولي وغياب إرادته السياسية عن وقف سيلان الدماء المستمر منذ عام.
يضاف إلى ذلك إحساسهم بالقدرة على التفكُّك من قيود الاستهلاك الغربي وتبعيته أولًا، وإمكانية تحدّيه والتأثير به وإضراره ثانيًا، ولا يقتصر ذلك على شعوب العوالم الشرقية والأوسطية فقط، إنما يتجاوزه للفرد الغربي الذي تكشّفت له الحقيقة الكولونيالية لتاريخه وحاضره.