مبادرات جزئية قد تغيّب الحلول الجذرية:
الدعوات لإرسال قوات دولية للسودان.. حماية للمدنيين أم بداية للتقسيم
في حين تمضي الحرب في السودان نحو شهرها الـ 18 في ظل توسع رقعة الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتفاقم تداعياتها الإنسانية، لا تزال التحركات الدبلوماسية الدولية عاجزة عن إحداث اختراق في جدار الأزمة وسط دعوات أممية لإرسال قوات حفظ سلام دولية إلى السودان أثارت المخاوف من أن تؤدي إلى حكومتين تطيلان أمد الصراع.
الثورة / أبو بكر عبدالله
بعد فترة جمود طويلة تجاه ملف الحرب السودانية عاد ملف الأزمة ليتصدر المشهد في العديد من المنابر الأممية والدولية حركته هذه المرة التقارير الأممية التي اتهمت طرفي الصراع بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين ترقى إلى جرائم الحرب.
وعقب جولة مباحثات فاشلة رعتها الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها في جنيف، سعت إلى حمل أطراف الصراع على توقيع تفاهمات تحد من الانتهاكات بحق المدنيين وتضمن وصول المساعدات الإغاثية إليهم، أطلقت العديد من منظمات الأمم المتحدة تقارير حذرت بصوت واحد من التدهور المريع للأوضاع الإنسانية في السودان، وسط دعوات بتوسيع نظام حظر توريد السلاح وإرسال قوات دولية لحفظ السلام وحماية المدنيين.
هذه الدعوات أثارت أسئلة حول توقيت صدورها وما إن كانت على صلة بالضغوط التي تحاول العديد من الأطراف الإقليمية والدولية ممارستها على مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان لحمله التخلي عن مطالبه في تنفيذ اتفاقات منبر جدة والانخراط في صيغ جديدة للسلام ترى الخرطوم أنها تكبل الجيش السوداني وتمنح قوات الدعم السريع وداعميها الإقليميين فرصا جديدة لمواصلة الحرب وتوسيعها.
مشاهد مروعة
وفقا للتقارير الأممية الأخيرة فإن العراقيل التي واجهت تفاهمات فتح الطرق وتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين المحاصرين بالحرب في السودان، تزامنت مع تفاقم مريع للانتهاكات التي صارت آثارها تطاول أكثر من 25 مليون نسمة يعانون من الآثار الإنسانية الثقيلة للنزوح القسري وجرائم القتل والاعتقال والتعذيب والتشريد والنهب، فضلا عن مواجهتهم بصورة جماعية شبح المجاعة الشديدة.
هذه الانتهاكات كانت محورا رئيسيا في أحدث تقرير أصدرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، اتهم طرفي الصراع (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) بارتكاب أفعال ترقى إلى جرائم الحرب، وأوصى مجلس الأمن توسيع قرار حظر توريد الأسلحة المطبق على إقليم دارفور على كامل الأراضي السودانية، وتمديد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الضالعين بارتكاب جرائم حرب، فضلا عن دعوته إلى إرسال قوة لحفظ السلام إلى السودان لحماية المدنيين.
تزامن ذلك اتهام بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في السودان في تقريرها الأول طرفي الصراع بارتكاب انتهاكات على نطاق وسع، ودعوتها الجيش السوداني والدعم السريع إلى وقف الهجمات ضد المدنيين على الفور دون قيد أو شرط، فضلا عن دعوتها السلطات السودانية للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.
أما الزلزال الذي حمله تقرير البعثة الأممية فقد كان في اتهامه قوات الدعم السريع بشن هجمات بدوافع عرقية وضلوعها بارتكاب جرائم الاغتصاب والنهب وتشريد المدنيين، وتجنيد الأطفال، واتهامه الجيش السوداني بشن غارات جوية على الأعيان المدنية، فضلا عن الاعتقالات التعسفية وأعمال التعذيب والعنف الجنسي التي ترتكبها القوات من الجانبين.
وهذا التقرير لم يكن الوحيد في المشهد فقد تزامن مع آخر أصدرته منظمة هيومن ريتس ووتش، كشفت فيه حصول الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على أسلحة ومعدات عسكرية حديثة تنتجها شركات مسجلة في الصين وإيران وروسيا وصربيا والإمارات وبينها طائرات مسلحة بدون طيار مزودة بأجهزة تشويش وصواريخ موجهة مضادة للدبابات، وقاذفات صواريخ مثبتة على شاحنات، وذخائر هاون، وتشير أرقام المعدات إلى أن الذخيرة تم تصنيعها عام 2023 محذرة من أنها قد تُستخدم في ارتكاب المزيد من الجرائم.
المنظمة التي وصفت الصراع في السودان بأنه “أحد أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث ترتكب الأطراف المتحاربة فظائع دون عقاب” أكدت أن الطرفين مسؤولان عن “جرائم حرب واسعة النطاق وفظائع، دعت هي الأخرى مجلس الأمن إلى توسيع حظر الأسلحة ليشمل جميع أنحاء السودان، ومحاسبة المخالفين.
زاد من ذلك الإنذار الذي أطلقه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، بعد رحلة أجراها مؤخرا إلى مدينة بورتسودان لتقييم الوضع الصحي واحتياجات الاستجابة لحالة الطوارئ المستمرة، والذي أكد فيه أن 80% من المرافق الصحية السودانية حاليا خارج الخدمة أو لا تعمل بكامل طاقتها، في ظل انهيار مستمر للنظام الصحي ودعوته أطراف الصراع إلى “وقف فوري لإطلاق النار يؤدي إلى حل سياسي دائم”.
حسابات سياسية
رغم أهمية التقارير الأممية بشأن الحالة الإنسانية المروعة للمدنيين في السودان وإفصاحها عن التداعيات الكارثية للحرب والأطراف المسببة لها، إلا أنها أثارت الشكوك كونها جاءت بعد فشل المبادرة التي قادتها الولايات المتحدة لعقد مفاوضات في جنيف، فشلت في جمع أطراف الصراع ما دعا السلطات السودانية إلى وصفها بأنها مسيسة ووسيلة من وسائل الضغط على الحكومة السودانية التي رفضت المشاركة في هذه المفاوضات.
هذا الأمر فسر مسارعة السلطات السودانية إعلان رفضها توصيات بعثة مجلس حقوق الإنسان ووصفها بأنها “عمل سياسي وغير قانوني” وجزء من جهد أوسع تبذله القوى الدولية المعروفة المعادية للسودان للتأثير على مواقف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تجاه المطالب بعد التجديد للبعثة الأممية التي تتهمها الخرطوم بالتغاضي عن انتهاكات قوات الدعم السريع وارتباطاتها الخارجية.
والشكوك تجاه التوصيات الأممية تعززت أكثر بعد إعلان قوات الدعم السريع قبولها ولا سيما إرسال قوات دولية لحماية المدنيين وتأكيدها أن “الوضع الراهن يستلزم تدخلا دوليا لضمان سلامة المواطنين” وأن “نشر القوة المحايدة قد يسهم في إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي في السودان، قد يؤدي إلى ظهور واقع جديد قد ينتهي بوجود حكومتين في البلاد”.
الموقف المتصلب للحكومة السودانية تجاه التوصيات الأممية كان مبررا بعد أن أفصحت بعض الأطراف الدولية باحتمال تحولها إلى مشاريع قرارات قد تُعرض على مجلس الأمن في أي وقت، ما قد يصعب من مهمة السلطات والجيش السوداني الساعين إلى إعادة الاستقرار إلى البلاد، في حين أنه قد يمنح الأطراف الخارجية التي تتهمها الخرطوم بدعم قوات الدعم السريع فرصا كبيرة لتأجيج الصراع واستمراره لسنوات طويلة قادمة.
غير بعيد عن ذلك مبادرة جنيف التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا والتي تكللت بإرسال موفدها الخاص إلى السعودية ومصر وتركيا، ضمن أجندة “الانحياز لتعزيز إنقاذ حياة البشر والسلام في السودان” (ALPS) والتي تقودها واشنطن بمشاركة سويسرا ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
هذه التحركات على أنها جاءت كما تقول واشنطن في إطار أولويات العمل الدبلوماسي المتعدد الأطراف لحث القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين وضمان حمايتهم وفقا للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، إلا أنها بدت بعيدة عن مطالب السلطات السودانية التي لم تكف يوما عن الدعوة إلى الوفاء بالالتزامات التي جرى الاتفاق عليها في منبر جدة.
أمال ومخاوف
ليس هناك شك في أن أطراف الحرب في السودان ارتكبوا جرائم شنيعة ترتقي إلى جرائم حرب، فطبيعة الحرب الحاصلة اليوم هي نتيجة طبيعية لحالة الانقسام التي خلفتها احتقانات المرحلة الانتقالية وحالة الانقسام القوية في المجتمع السوداني ومؤسساته السياسية والعسكرية، والتي جعلت كل طرف يوجه كل طاقاته وقدراته لهزيمة الطرف الآخر دون الاكتراث بتوفير الحماية للمدنيين أو مصالحهم.
طبقا لذلك فإن التوصيات الأممية الأخيرة بتوسيع نظام حظر توريد الأسلحة للسودان وإرسال قوات دولية لحماية المدنيين وتحريك ملفات جرائم الحرب في الجنائية الدولية، لن تبقى حبرا على ورق، والمُرجح أنها ستتحول إلى مشاريع قرارات قد تُطرح على طاولة مجلس الأمن للمصادقة عليها في الأيام القادمة، باعتبارها من أفضل الأوراق التي يمكن الرهان عليها للضغط على أطراف الصراع تقديم تنازلات.
لكن هذا التداعي إن حدث فإنه قد يضع أساسا لتدخل دولي مباشر في السودان ما قد يؤول إلى تعقيدات لا نهاية لها في ملف الأزمة السودانية.
ذلك أن وجود قوات دولية في السودان لحفظ السلام وحماية المدنيين في ظل حرب شعواء مستعرة في أكثر الأقاليم السودانية، لن يكون سهلا على الشعب السوداني تفهمه أو الوثوق به، في ظل امتلاك كل طرف جيشا كبيرا مدعوماً من أطراف خارجية وتخوض حربا عنيفة للسيطرة، بالتوازي مع خوضها حرب استقطاب تراها مصيرية لضمان بقائها.
وأكثر الأدوار مثالية يمكن أن تلعبها القوات الدولية بفض النزاع المسلح بين الطرفين المتصارعين لن يكون سوى كابوس مرعب، كونه سيقود إلى تقسيم السودان إلى مناطق خاضعة لسيطرة الجيش وأخرى خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وهي صيغة مثالية لتوسع وديمومة الحرب وستجعل من مهمة حماية المدنيين في آخر قائمة اهتمامات الأطراف المتحاربة.
واليوم.. يمكن ببساطة قراءة مواقف متباينة لدى الشارع السوداني بين من يرى في الدعوة لإرسال قوات دولة إلى السودان طوق النجاة الأخير لوقف نزيف الدم والانتهاكات وإنقاذ المدنيين وصولاً إلى إنهاء الحرب، وبين من يراها تعقيدا جديدا يضاف إلى المشهد المعقد للأزمة قد يؤدي إلى حشر السودان في نفق مظلم من الحروب والانقسامات السياسية والاجتماعية والأثنية..
والتقديرات التي تتحدث عن إمكانية تكليف أي قوات دولية جديدة بالمهام التي كانت أسندت إلى قوات البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في إقليم دارفور عام 2007، ليس سوى أحلام بعيدة المنال، فالتاريخ القريب يقول إن دور هذه القوات كان هامشيا وضعيفا للغاية ولم يقدم أي حماية للمدنيين، بل أن هذه القوات كانت تطلب في مرات كثيرة من الجيش السوداني حمايتها من هجمات الحركات المتمردة والجماعات المتطرفة.
زد على ذلك أن الحرب المندلعة في السودان اليوم متداخلة ومحتدمة في أكثر الأقاليم السودانية وهي تختلف كليا عن ظروف الحرب التي كانت سابقا محصورة في إقليم دارفور ما يجعل التوقع بأن تقوم القوات الدولية بمهام لحماية المدنيين شبه مستحيلة.
معطيات قريبة
من يعرف القليل عن تفاصيل الحرب في السودان ومسببات توسعها سيقرر أنها مرشحة للاستمرار لفترة طويلة، والسبب في ذلك أن معطياتها لا تختلف عن تلك الحروب المعقدة التي عادة ما تندرج ضمن الحروب بالوكالة المدعومة من شبكة تحالفات داخلية أو خارجية معقدة.
ولا أحد يمكنه اليوم التعامي عن دور الأجندات الإقليمية والدولية في تأجيج الصراع في السودان، فالتمويل الخارجي كان ولا يزال السبب الأول في استمرار الحرب وارتفاع فاتورة الخسائر البشرية والمادية، وهو أمر تعترف به الأطراف المتحاربة.
والتقرير الأخيرة لمنظمة هيومن رايتس ووتش، كان كافيا لتسليط الضوء على المفاعيل المغيبة عن مشهد الأزمة في السودان الذي تحول في غضون أشهر قليلة إلى وعاء مفتوح لاستقبال السلاح المغذي لأعتى الحروب.
هذا الأمر يمكن ملاحظته في حالة الإحباط لدى العديد من القيادات السياسية السودانية التي صارت تفصح بأن مفاتيح حل الأزمة في السودان لم تعد بأيدي السودانيين، لذلك ترى أن أي مبادرات أو خطط يقودها الخارج لن تقدم للسودانيين أي جديد وستعمل ما بوسعها لتنفيذ مطالب الأطراف الخارجية أكثر من تلبية مطالب الداخل السوداني.
والمؤكد أن أي دعوات دولية لإرسال قوات دولية لن تخرج عن هذا الإطار، وهي في النهاية لن تكون سوى حلول جزئية قد تفلح في الضغط على أطراف الصراع من أجل فتح الطرق لتوصيل مواد الإغاثة الإنسانية للمدنيين، لكنها ستكون إنجازا صغيرا يغيب الحلول الكبيرة التي يحتاجها السودانيون لإنهاء الحرب والعودة إلى المسار السلمي.