بعد “عملية يوم الأربعين” مباشرة، وكما عند كل محطة مفصلية، يطلق الإسرائيليون ترسانتهم الإعلامية في كل اتجاه. تتجند وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية، ومعها بعض الإعلام العربي، من أجل ترويج السردية الإسرائيلية ونشرها على أكبر نطاق ممكن.
في المقابل، تتصدى الجبهة المقابلة لهذه المحاولات، مستفيدة من الحقائق ومن موازين القوى الجديدة التي تؤكد أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على فرض أجندتها السياسية والعسكرية، وكذلك الإعلامية، بأريحية واطمئنان، إلا أن الملاحظ أن إحدى أبرز أدوات هذه الترسانة لا تحظى بالاهتمام اللازم ولا يتم الالتفات إلى دورها الأساسي في التضليل وخلق السرديات.
إنها مراكز الدراسات والتفكير الاستراتيجي والسياسي الغربية، وخصوصاً الأمريكية، التي تقدم نفسها كمؤسسات بحثية تتقصى الحقيقة وتسعى لإنتاج التفكير الاستراتيجي العلمي والموضوعي، إلا أن الوقائع تؤكد أنها تعمل على العصف بالعقول والتلاعب بها وعلى إنتاج السرديات والتأثير في مواقع القرار، فضلاً عن دور استخباراتي غير بسيط خدمة لأجندات الجهات الممولة التي تمثل المصالح الاقتصادية والسياسية لمنظومة الهيمنة الأمريكية.
وقد أوجدت هذه المؤسسات مكاناً لباحثين وصحافيين ومتخصصين، إضافة إلى شخصيات بارزة أدت في ما بعد أدواراً مهمة في دوائر صناعة القرار الأمريكي، مثل روبرت ماكنمارا وهنري كيسنجر وكوندوليزا رايس ورامسفيلد وريتشارد بيرل وديك تشيني وزوجته.
كل هؤلاء كانت لهم أدوار كبيرة في العالم، وفي منطقتنا تحديداً، ودعوا كل من موقعه إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
خطورة دور مراكز الدراسات هذا دفعت إلى تسميتها بدبابات الأفكار.
كما هو معلوم، فإن هذه المؤسسات تسمى في الولايات المتحدة الأمريكية think tank، والترجمة الحرفية للمصطلح تعطينا أكثر من مرادف. هي تعني وعاء الأفكار، ولكن في الوقت نفسه تعني “دبابة الافكار”.
المعنى الثاني تبنته مجلة الإيكونومست في إحدى افتتاحياتها التي عنونتها بـ”هجمة دبابات الفكر”.
جاء في المقالة التي نشرت منذ سنوات، والتي لا يزال ما ورد فيها صالحاً حتى اليوم، “أن أمريكا أصبح لديها جيش خطر من المفكرين الذين احترفوا تهييج القوة الأمريكية واستثارتها، وهي تندفع أبعد كل يوم على طريق الحرب”. وتشير الصحيفة إلى دور هذه المراكز في تحديد ما يجب فعله وما لا يجب، وتذهب إلى حد الكلام عن أن العاملين في المراكز البحثية يساهمون في وضع جدول أعمال للإدارة الأمريكية.
وعندما تتحول الأفكار إلى استراتيجيات وخطط، ومن ثم إلى أمر واقع، “يكون مطلوباً من العالم أن يصفق لهذا الجنوح الأمريكي المجنون المتحصن في دبابات الفكر الجديدة”، وتتابع الإيكونوميست: “إن هذه المؤسسات من نوع مؤسسة التراث ومركز منهاتن للدراسات والمشروع الأمريكي ومركز هوفر أصبحت كلها تمارس نفوذاً تعدى دائرة الفكر ووصل إلى دائرة رسم السياسات وصنع القرارات”.
وتذهب المجلة إلى حد الكلام عن “أن الأفكار المحركة للقرار الأمريكي هي ذلك السيل المتدفق من مؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية. على سبيل المثال، فإن أحد هذه المراكز، وهو مركز دراسات المشروع الأمريكي، هو الذي صك وأشاع للتداول تعبير الدقة، وهو تعبير أدبي لم يلبث أن تحول إلى استراتيجية حرب”.
ليس هذا فقط؛ فقد تحولت هذه المؤسسات، وفق الإيكونوميست، إلى “حكومة الظل الخفية والحقيقية التي تصوغ القرار السياسي الأمريكي: أما الرئيس فتبقى له مهمة التوقيع”.
الوصول إلى هذا المستوى من النفوذ والتحكم بدأ العمل عليه بشكل جدي ومدروس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في تلك المرحلة، انتشرت مراكز الدراسات بشكل كبير بهدف استيعاب المفكرين والباحثين الأمريكيين ضمن أطر تعمل على خدمة التوجهات الأمريكية الرسمية.
وكما هو معلوم، فإن للرأسمالية الأمريكية دوراً كبيراً في هذا الاستثمار من خلال التمويل والدعم، فقد قامت الشركات الكبرى، مثل روكفلر وفورد وكارنيغي وراند، بإنشاء مؤسسات للتفكير والبحث.
مع الوقت، تبلورت الأدوار وتوسعت، وسرعان ما ظهر دور لا يقل خطورة عما سبق ذكره، وهو الدور الاستخباراتي. وقد كان لمنطقتنا حصة وازنة على هذا الصعيد، وخصوصاً خلال المفاوضات العربية الإسرائيلية في مختلف مراحلها. هذه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”.
ذكر هيكل أن العاملين في مراكز الدراسات والتفكير الأمريكية كانوا يبعثون رسائل معينة أو دعوات محددة لأطراف عربية معنية بالمفاوضات، مشيراً إلى أن هؤلاء الباحثين “يعملون داخل مؤسسات سياسية واستراتيجية تهتم بكتابه الأوراق في الظاهر، لكنها في واقع الأمر غارقة حتى الآذان في نقل المعلومات والتوجيهات، وحتى الصياغة، من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا”.
يلفت هيكل أيضاً إلى أن مراكز الدراسات الغربية تتميز بحضور ونفاذ صهيوني إسرائيلي، ويلاحِظ وجوداً كثيفاً فيها لغلاة المتعصبين للمشروع الصهيوني ولأولوية أمن “إسرائيل”.
ويتحدث عن مسألة عملت عليها هذه المؤسسات وبشكل موازٍ لدورها الاستخباراتي، تتمثل بتطويع العقل العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من خلال “إعادة صياغة عقل العديد من المفكرين العرب الذين تعطيهم هذه المراكز الإحساس الزائف بأنهم أطراف في صناعة فكر سياسي جديد”.
ويبدو، وبكل أسف، أن ما بدأ في تلك المرحلة استمر حتى يومنا هذا. تؤكد الوقائع أن الاستثمار الأمريكي والصهيوني في هذا المجال نجح بنسبة غير قليلة بدليل جيش الصحافيين والناشطين، وأيضاً من يعرفون أنفسهم بالمفكرين والباحثين العرب الذين احتلوا منذ عملية طوفان الأقصى إلى عملية يوم الأربعين عدداً من الشاشات والمنصات الإعلامية، ولم يترددوا بتبني السردية الإسرائيلية على الرغم من هشاشتها وتفاهتها وكذبها المفضوح.
إعلامية لبنانية