كما جاءت عملية “يوم الأربعين” مركبة وناجحة ودقيقة من الجانب العسكري والتقني، فقد حملت بالمقابل رسائل سياسية واستراتيجية مركبة، سواء للجبهات التي تشهد تصعيداً واتساعاً، أو للمفاوضات التي تشهد مراوغة وخداعاً.
رسائل “يوم الأربعين” للجبهات:
حملت العملية رسائل عسكرية واستراتيجية هامة يفهمها العدو ورعاته في أمريكا و”الناتو” جيدًا، كما حملت رسائل لرفاق الجهاد بمختلف ساحات المقاومة:
1 – عدم السماح بكسر التوازن وتغيير المعادلات تحت عنوان الاستقواء بأمريكا و”الناتو”، وأن تثبيت معادلات توازن الردع هو أمر لا يمكن المساس به بعد بلوغه بتضحيات جسيمة.
2 – مهما بلغت درجات التأهب والاستنفار لدى العدو ومهما بلغت المساعدات المقدمة له، فإنه ليس بعيداً عن يد المقاومة الطولى، والتي تستطيع الوصول لعمق الكيان بأقل إمكانياتها ودون حتى استخدام للصواريخ الدقيقة والاستراتيجية.
3 – لا يوجد قصف عشوائي في قاموس المقاومة، بل تمتلك المقاومة بنكاً للأهداف، وحتى الصواريخ المنطلقة لإشغال الدفاعات تُوجه نحو أهداف عسكرية دقيقة ولا تطلق بالمناطق المفتوحة والخالية.
4 – حماية المدنيين في لبنان والحرص على المصلحة وعدم استهداف المستوطنين (المدنيين) في الكيان رغم أنهم في تعريف المقاومة مغتصبون ومحاربون، وهي رسالة للعدو بأنهم تحت أنظار المقاومة وفي متناول أسلحتهم ولكنهم متروكون لمعادلات أخرى إذا ما أقدم العدو على حماقاته وإجرامه بالاستقواء على المدنيين في لبنان.
5 – قطع الطريق على العدو وأميركا بخلق معادلة خاصة بلبنان، عبر التهويل بالحرب أو الدفع لأيام قتالية، للضغط على المقاومة لإخراجها من جبهة الإسناد، حيث أوضحت المقاومة بردها أنها لا تخشى المواجهة وأبدت جهوزيتها الكاملة لها وأن حرب الإسناد مستمرة حتى وقف إطلاق النار في غزة وبشروط ترضى بها المقاومة الفلسطينية و”حماس” تحديدًا .
رسائل العملية للمفاوضين:
حرص الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله على تناول المفاوضات الجارية في خطابه، وأكد أن المقاومة فضلت التريث وتأخير الرد لإعطاء الفرصة للمفاوضات لأن هدفنا هو وقف العدوان على غزة”، رغم أن مسار الرد منفصل عن مسار المفاوضات، كما حرص سماحته على القول إن هذه العملية تخدم المفاوض الفلسطيني والعربي، وهنا يمكن رصد ما يلي:
أولاً: جولة التفاوض الجارية في القاهرة جاءت استكمالاً لجولة الدوحة، وهي جولات تشهد مفارقات غريبة، منها غياب طرف رئيسي عن المشاركة وهو “حماس” بسبب الإخلال بقواعد التفاوض عبر محاولة نتنياهو فرض شروط جديدة معروف سلفًا أن المقاومة ترفضها مبدئياً، وتصر على العودة الى مقترح بايدن الذي عرض عليها في 2 تموز/يوليو الماضي ووافقت عليه، كما شهدت المفاوضات تصريحات وتسريبات إعلامية استباقية مخادعة تزعم أن نتنياهو تجاوب مع الضغط الأمريكي وأن الكرة في ملعب حماس التي تعرقل المفاوضات.
وهي أكاذيب مركبة تحاول ترسيخ صور مخادعة توحي بأن أمريكا وسيط وليست شريكًا بالعدوان، بل وقائداً له، وبأن نتنياهو منح وفده المفاوض صلاحيات أوسع رغم أنه يصر على احتلال المعابر ومحور فيلادلفيا وتتمثل المراوغة في إعادة انتشار قواته بالمحور، وأن حماس ترفض التنازل رغم المرونة القصوى التي أبدتها بالموافقة على مقترح أمريكي سابق لسبب وحيد أنه يتضمن الانسحاب من غزة ووقف إطلاق نار دائم ولو على مراحل.
ثانياً: من الواضح أن الجولة التفاوضية الجديدة في القاهرة تخدم الأهداف الانتخابية الأمريكية والوضع الداخلي المأزوم لحكومة نتنياهو وأنها تعمل على كسب الوقت وتعطيل الرد من جبهات المقاومة وما يحمله ذلك من تداعيات على الجبهات الداخلية للمقاومة وما ينفذ إليها من دعايات وحروب نفسية أشار لها السيد نصر الله في خطابه.
هنا يجدر ذكر السياسة التي تتعامل بها أمريكا، وهي سياسة حلف “الناتو” منذ أواخر الستينيات، وهو النهج الذي كرسه تقرير “هارمل” لعام 1967، حيث تعطي الأولوية للردع على النحو المنصوص عليه في التقرير، والذي حدد نهج “المسار المزدوج” الذي يتبناه الحلف مع الاتحاد السوفيتي وقتها ومفاده، أن الردع العسكري لمنع الحرب لا بد أن يكمله حوار سياسي للحد من التوتر بين القوى العظمى، وهذا النهج المزدوج المسار يؤدي إلى تقويض ثقة الخصم في أن استخدام القوة العسكرية يخدم مصالح سياسته الخارجية.
أي أن أمريكا عبر حشد القوة والبوارج والغواصات تستطيع الردع ثم تقود حواراً سياسياً تفرض به شروطها وتنتزع التنازلات، وهو ما أفشله رد حزب الله وعملية “يوم الأربعين”، حيث أبطلت الأوهام الأمريكية و”الإسرائيلية” بانتزاع التنازلات أو التفرد بجبهات الإسناد.
وهنا الرسالة الرئيسية للمفاوضين هي أن المقاومة الفلسطينية ليست وحيدة، بل تستند إلى ظهر قوي من جبهات الإسناد وأنها ليست فريسة، وإذا حاولتم التهويل بالحرب فإن الجبهات لا تخشى المواجهة، فعليكم التسوية ووقف إطلاق النار إن كانت هذه المفاوضات جادة وصادقة وليست حيلة استراتيجية.