ثلاثي مصادر الولاء والانتماء للوطن التي يتشربها الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات تنحصر في ثلاث مصادر أولها الأسرة وهي النواة الأولى لولادة الفرد ونشأته وطفولته، فالأسرة تمثل اللبنة الأولى التي يرضع فيها الإنسان حب الوطن فطريا بحكم الولادة ويربى على الولاء للوطن منذ الصغر، ثم يأتي ثانيا دور المدرسة ومراحلها المختلفة حتى الجامعة، ويلقى على كاهل العملية التعليمية الدور الأكبر والمتمم لدور الأسرة في نضج الإنسان فكريا وتعليميا وانتماء وطنيا، وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة عطاء الفرد لوطنه ونفسه وهي مرحلة حصاد المرحلتين السابقتين للأسرة والتعليم ( مرحلة العمل )، والعمل أو الوظيفة هو جوهر هذا المقال والغاية منه، ولا أظن أن هناك من يخالف الاتجاه القائل أن العلاقة بين المواطن ووطنه يعمقها ارتباطا أو فتورا مسألة العمل لأنه المصدر الأخير الذي يحدد علاقة الإنسان بوطنه ثم بكل شيء من حوله، كما لا يختلف اثنان أن من حق كل شخص في أي مجتمع من المجتمعات التمتع بعمل لائق يحفظ له كرامته، وان عدم تمكن الإنسان من العمل اللائق يشعره بالظلم بل وبالغربة في وطنه، فمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الموظفين والعاملين من الدين بل هو مرتكز أساسي من مرتكزات الدولة العادلة والقوية، فشعور الإنسان بالدونية وبأنه مضطهد ومستغل في العمل وأنه ينزف تعبا من أجل الفتات والذي لا يسد رمق عيشه وأسرته لبضعة أيام فقط من الشهر، بينما غيره أقل منه خبرة وعلما ومجهودا في وضع مالي ووظيفي أحسن منه بكثير نتيجة المحسوبية والوساطة ينعكس ذلك سلبا على الموظف وعلاقته بالعمل والإخلاص له، وهو ما يؤثر بعد ذلك على عدم رغبة الموظف والتواصل بشكل مريح مع محيطه سواء في بيئة العمل أو خارجه.
ومن المهم التوقف عند أهمية العمل في تحديد علاقة الفرد بذاته، فالعمل حينما يتسم بالتمييز والتفرقة يعتبر بيئة عمل غير لائقة ويجعل الموظف في حالة توتر وخصومة مع نفسه وبالتالي مع الآخرين ومحيطه الاجتماعي، مما يجعل من أولئك الذين يشعرون بالغبن والتفرقة قنابل موقوتة قابلة للانفجار أو عرضة لتوظيفهم لصالح أجندات خارجية، ومما يزيد في القلب غصة ترك بعض الموظفين مهمشين بدون عمل (وهو ما يعرف بالبطالة ) وأغلب حالات البطالة المقنعة والتهميش المتعمد تكون من نصيب ذوي الضمائر الحية، والمخلصين في أعمالهم من أصحاب الكفاءات والشهادات العلمية ..
إن الشعور بالمهانة نتيجة التهميش المتعمد له أثره الخطير على الموظف والمجتمع والوظيفة العامة سيما إذا ما طالت فترة البطالة وكثر الظلم على الموظف، وأوصدت أمام تلك الكفاءات أبواب العمل اللائق والمناسب لخبراتهم ومؤهلاتهم .. فإذا كانت من مقتضيات الوطنية القيام بالواجبات والمسئوليات بكل أمانة وصدق، فإن المساواة بين الموظفين من أهم أسس المواطنة في الإسلام، وهي من أهم الدوافع التي تعمق الولاء للوطن ولقيادته، وهي كذلك أحد الأسس الجالبة للأمن المجتمعي والنجاة من الفتن ..
إن تطبيق مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات واحترام إنسانية الإنسان، وتقدير ذوي الكفاءات وأصحاب الشهادات والخبرات العلمية والعملية ووضعهم في وظائف تليق بهم وعامل رئيسي لتقدم الوطن ومحبته والافتخار به، وصيانته والدفاع عنه، والحرص على سلامته، واحترام ومحبة أفراد المجتمع بعضهم البعض .