المفاوضات هي إحدى أهم وسائل التسوية السياسية للمنازعات بالطرق السلمية، وتحكمها قواعد وأصول علمية متعارف عليها. وتنقسم المفاوضات الدولية إلى نوعين: مفاوضات مباشرة، لا يحتاج إطلاقها إلى تدخل طرف ثالث، سواء لإقناع أطراف الأزمة بالفوائد المرجوة منها أو لمتابعة المسار الذي تسلكه بعد انطلاقها إلى أن تكلل بالنجاح عند التوصل إلى تسوية مقبولة للنزاع، ومفاوضات غير مباشرة، تتطلب جهود طرف ثالث للقيام بدور الوساطة، سواء للمساعدة على إطلاقها عقب اندلاع النزاع، أو لتذليل العقبات التي قد تعترض مسارها بعد انطلاقها.
ولكي يتمكن طرف ثالث من القيام بدور الوسيط، يجب أن تتوافر فيه شروط ومواصفات خاصة تتيح له كسب ثقة أطراف النزاع، في مقدمتها الوقوف على الحياد وعدم الانحياز إلى أي من الأطراف المتنازعة، وامتلاك الوسيط بعض أدوات القوة ومصادرها التي تمكنه من التأثير في أطراف النزاع بطريقة تضمن تقدم العملية التفاوضية وحمايتها من التراجع أو الانتكاس.
ويتوقف نجاح أي مفاوضات دولية على عوامل كثيرة، أهمها مشاركة جميع الأطراف المؤثرة في مسار الأزمة، ووضوح أهداف العملية التفاوضية منذ البداية، وتوافر حسن النية لدى جميع المشاركين فيها، والاتفاق في نهايتها على آلية تسمح بدخول الاتفاق الذي يتم التوصل إليه حيز التنفيذ.
إذا طبقنا هذه المبادىء والقواعد العامة على المفاوضات التي تستهدف وقف الحرب المشتعلة في قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر، فسوف نكتشف أنها تتسم بالكثير من مظاهر الخلل البنيوي، ما يفسر دورانها باستمرار في حلقة شبه مفرغة تحول دون تمتعها بما تحتاج من ديناميكية للتوصل إلى نتائج ملموسة خلال فترة زمنية معقولة، وتعرضها لضغوط متزايدة كثيراً تدفعها إلى الدخول في متاهات أو في اتجاهات متعاكسة. ثمة إشكاليات تتعلق بموضوعها وبحقيقة البنود المدرجة على جدول أعمالها، وبالتالي بالأهداف التي يسعى أطراف النزاع إلى تحقيقها عبر المشاركة في هذه المفاوضات.
وهناك إشكاليات تتعلق بالأطراف المشاركة فيها، وبمدى قدرة هذه الأطراف على تمثيل مجمل القوى المنخرطة في الجولة الراهنة من الصراع المسلح. وهناك أخيراً إشكاليات تتعلق بالأطراف التي أخذت على عاتقها مهمة التصدي للقيام بدور الوساطة، وبما تملكه هذه الأطراف من أدوات للتأثير في مسار الأزمة. لذا، تبدو المفاوضات الجارية حالياً حول الحرب المشتعلة في قطاع غزة، وبسبب التفاعلات الناجمة عن وجود هذا الكم الكبير من الإشكاليات، وكأن لها وظيفة أخرى مستترة تتناقض مع وظيفتها المعلنة.
في ما يتعلق بالموضوع، أي البنود المدرجة على جدول أعمال هذه المفاوضات، يلاحظ أن الكيان الصهيوني يصر على أن تكون استعادة الأسرى المحتجزين في قطاع غزة البند الوحيد المدرج على جدول أعمالها، ما يفسر حرصه على الفصل التام بين موضوع إبرام صفقة لتبادل الأسرى وبين الوقف الدائم لإطلاق النار، كما يفسر في الوقت نفسه إصراره على ألا يؤدي إبرام هذه الصفقة إلى تقييد يده أو منعه من مواصلة الحرب إلى أن يتمكن من تحقيق أهدافه المعلنة كاملة.
أما حماس فترى أن إبرام صفقة لتبادل الأسرى يجب أن يكون جزءاً من كل، يبدأ بوقف دائم لإطلاق النار ينهي حرب الإبادة الجماعية التي يشنها “جيش” الكيان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وينتهي بفتح طريق جاد أمام تسوية شاملة للقضية الفلسطينية تؤدي إلى إنهاء الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه، خصوصاً ما يتعلق منها بحقه في تقرير مصيره.
وفي ما يتعلق بالأطراف المشاركة في هذه المفاوضات، يلاحظ أنها تضم كلاً من الكيان الصهيوني وحركة حماس، وهما طرفا الأزمة المباشران، إلى جانب كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر، وهي الأطراف الثلاثة التي قررت القيام بدور الوسيط.
ولأن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ينظران إلى حركة حماس باعتبارها منظمة إرهابية، وبالتالي لا يعترفان رسمياً بوجودها، فليس هناك مجال للتواصل المباشر معها، وإنما يتم ذلك بطريق غير مباشر عبر الوسيطين المصري والقطري فقط.
معنى ذلك أننا لسنا إزاء مائدة مفاوضات حقيقية تجتمع حولها أطراف الأزمة كافة، من ناحية، وكل الوسطاء، من ناحية أخرى، وعلى نحو يسمح باشتراك الجميع في مناقشة كل التفاصيل وبأكبر قدر من الشفافية، وهو المشهد المعتاد في معظم أشكال المفاوضات الدولية، ولكننا إزاء نمط خاص وغريب من مفاوضات دولية لا تستطيع جمع كل المشاركين فيها حول مائدة تفاوض واحدة، وبالتالي لا تسمح بالتواصل المباشر والمتزامن بين مختلف الأطراف، وإنما نحن إزاء مفاوضات تقودها الولايات المتحدة الأميركية، ممثلة في إدارة بايدن، وتهيمن بشكل منفرد على إدارتها. فإدارة بايدن هي التي تتولى طرح المقترحات وصياغة الأفكار، ولكن بعد مناقشتها أولاً مع الكيان الصهيوني، ثم تقوم بعد ذلك بمناقشة هذه الأفكار والمقترحات، بعد إدخال ملاحظات الكيان عليها، مع الوسيطين العربيين، أي مع مصر وقطر، اللذين يقومان بدورهما بمناقشتها مع ممثلي حركة حماس، إما بشكل منفرد أو في اجتماعات مشتركة تضم ممثلين عن مصر وقطر وحركة حماس.
ولأن المستوى السياسي لحركة حماس، المكلف بتلقي المقترحات الصهيوأميركية من الوسيطين المصري والقطري، لا يستطيع أن يتخذ قراراً منفرداً بشأن هذه المقترحات، قبولاً أو رفضاً أو تعديلاً، إلا بعد التشاور مع القيادات الميدانية التي تخوض المعارك من داخل القطاع، يمكن أن نتصور حجم الجهد المبذول والوقت الضائع ونوعية العراقيل التي يمكن أن تظهر عند أي نقطة تقع على هذه الشبكة المتسعة والمتعرجة من دوائر الاتصال المباشر وغير المباشر بين أطراف الأزمة المباشرين، من ناحية، والوسطاء، من ناحية أخرى.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن حزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله اليمنية وعدداً من فصائل المقاومة العراقية دخلوا على خطة الأزمة في مرحلة أو أخرى لتقديم دعم ومساندة عسكرية لحركة حماس، لتبين لنا بوضوح حجم التعقيد الذي بات يكتنف شبكة الاتصالات المعنية بإدارة هذه المفاوضات ومتابعتها.
صحيح أن جميع مكونات محور المقاومة التي قررت تقديم الدعم والإسناد العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة أكدت التزامها المسبق بما تتخذه حماس من قرارات تتعلق بأي شأن من شؤون هذه المفاوضات، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن أزمات الإقليم باتت كلها متداخلة ومترابطة عضوياً، ما يعني أن نجاح المفاوضات المتعلقة بالحرب المشتعلة في قطاع غزة أصبح متوقفاً على مجمل تفاعلات وموازين القوة داخل المنطقة ككل.
وفي ما يتعلق بالأطراف التي أخذت على عاتقها مهمة التصدي للقيام بدور الوساطة في هذه المفاوضات، يلاحظ أن هذا الدور ألقي تلقائياً، ولأسباب متباينة، على عاتق الولايات المتحدة ومصر وقطر. فالولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي ترى كل الأطراف أنه قادر على إقناع الكيان الصهيوني أو ممارسة الضغط عليه لوقف الحرب التي يشنها على قطاع غزة منذ انطلاق “طوفان الأقصى”. ومصر هي الطرف الذي تربطه حدود جغرافية مباشرة مع قطاع غزة وتمكنت من نسج علاقات جيدة مع مختلف الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حماس وسلطة رام الله. وقطر هي الدولة التي تستضيف على أرضها معظم القيادات السياسية لحماس وتتولى تقديم مساعدات مالية سخية لسكان القطاع، بموافقة أميركية وإسرائيلية.
غير أن الدور الذي تقوم به إدارة بايدن على هذا الصعيد يعدّ فريداً وشائكاً في الوقت نفسه. فهو دور فريد لأن إدارة بايدن باتت صاحبة القول الفصل في هذه المفاوضات، ومن دونها يصعب تصور إمكانية أن يكون للوساطة دور يعتد به لإنهاء الحرب المشتعلة في قطاع غزة. وهو دور شائك لأن هذه الإدارة ليست طرفاً محايداً وإنما هي شريك أساسي في هذه الحرب، وبالتالي لا تصلح مطلقاً للعب دور وسيط. فلولا ما قدمته للكيان الصهيوني من دعم عسكري واقتصادي لما استطاع أن يصمد في حرب طالت حتى الآن، ولأول مرة في تاريخ هذا الكيان، لما يقرب من أحد عشر شهراً.
ولولا ما قدمته من دعم سياسي في مختلف المحافل الدولية، لفرضت عقوبات قاسية على الكيان الصهيوني بسبب ما اقترفه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ومن إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني. صحيح أن خلافات في وجهات النظر تظهر بينهما من حين إلى آخر، أي بين إدارة بايدن والكيان الصهيوني، لكن تبين بما لا يدع أي مجال للشك أن الرهان على رغبة هذه الإدارة في ممارسة ضغوط حقيقية على حكومة نتنياهو هو رهان خاسر، وهو ما ثبت بشكل قاطع إبان جولة بلينكن الأخيرة في المنطقة. وهنا، تكمن أم الإشكاليات. فالولايات المتحدة تقوم فعلياً بدور الشريك في استمرار الحرب، وتحاول إقناعنا بأنها قادرة في الوقت نفسه على القيام بدور الوسيط المكلف والوحيد القادر على إيقافها.
منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة الجماعية التي قرر الكيان الصهيوني شنها على الشعب الفلسطيني، لم تخف إدارة بايدن نيتها في تقديم كل دعم ممكن لمساعدة حكومة نتنياهو على تحقيق جميع الأهداف التي حددتها لهذه الحرب، وأهمها القضاء على حماس عسكرياً وسياسياً واستعادة الرهائن. ولأنها تدرك يقيناً استحالة استعادة الرهائن من دون التفاوض مع حماس، فقد بات واضحاً أن إدارة بايدن تستخدم المفاوضات أداة لمد نتنياهو بما يحتاج من وقت للقضاء المبرم على حركة حماس. وهنا، تكمن المعضلة الكبرى: فكيف يمكن لطرف أن يتفاوض بجدية مع خصم يعلن صباح مساء أنه يسعى للقضاء عليه؟