الثورة التي استبدلت (الملك) بـ (الإمبراطور)..!

 طه العامري

 

أجد كثيرا من النخب الثقافية والفكرية العربية يتغزلون بقيم الثورة الفرنسية باعتبارها ثورة الحرية والعدالة والمساواة، وأنها الثورة التي أرست مداميك الحرية والتحولات في أوروبا ومنها انتقلت للعالم، وتم تسويق هذه الفكرة عن الثورة الفرنسية ونالت حضورا في الوعي الجمعي النخبوي على مستوى العالم وفي عالمنا العربي وجدنا نخباً عربية كثيرا ما تستشهد بالثورة الفرنسية وتتغزل بقيمها ومبادئها، مع أنها جاءت مجردة من القيم والأخلاقيات وهي الثورة التي أكلت أبناءها وأعدم نطاقها (روبسبير) بالمقصلة داخل الجمعية الوطنية -البرلمان -! نعم هي أسقطت (سجن الباستيل) الرهيب، لكنها أنشأت سجوناً أكثر فظاعة ونصبت بديلا عن الملك ( لويس السادس عشر) الذي أعدمته الثورة (إمبراطورا) هو (نابليون بونابرت) الذي داس على قيم الثورة وأهدافها وقيم الحرية والعدالة والمساواة وانطلق بجيوشه لإخضاع شعوب العالم واستعبادها تكريسا للثقافة الاستعمارية من وسط أوروبا إلى قارتي آسيا وأفريقيا، ويكفي أن ما قامت به فرنسا الاستعمارية بعد ثورتها من فظائع وجرائم بحق شعوب العالم، ما يسقط عنها كل القيم والأخلاقيات ويفقدها صفة الثورة واحتلال مصر والشام والجزائر ودول أفريقيا ودول آسيوية، وما مارست فرنسا في هذه النطاقات كاف لتجريدها من كل القيم النبيلة التي راحت تسوقها زورا وهي مجرد أكاذيب ومع ذلك هناك من لا يزال يستشهد بهذه الثورة..! في ذات الوقت الذي نجد هؤلاء ينكرون ويتنكرون لثورة مثل ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر، فنجد منهم من يصفها بـ (الانقلاب) وآخرين يصفونها بـ(العسكريتاريا الديكتاتورية) وآخرين يصفونها بانقلاب المغامرين الخ التوصيفات مع أن ثورة يوليو، رغم كل ما قيل فيها ورغم الأخطاء التي يمكن أن تكون قد وقعت فيها، قدمت رؤية اجتماعية للتغيير رفضها العرب وحاربوها وأخذ بها بعض  قادة أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فيما الذين راهنوا على فلسفة الثورة الفرنسية والقيم الليبرالية هزمتهم أفكارهم أمام جرائم من اتخذوهم قدوة لهم، بدءا من الثورة الفرنسية إلى القيم الليبرالية، وصولا إلى الثورة الاشتراكية السوفيتية، مدارس فكرية سقطت بسبب التناقض بين الأفكار التي رفعتها والممارسات الواقعية..! ترى بعض النخب السياسية والفكرية العربية  المبهورة بالتحولات الحضارية الغربية -بطابعها الليبرالي أو الاشتراكي أن رؤية ناصر ومشروعه القومي، رؤية انتقاصية بدافع من ندية وانتقاص، غير أن المراقب الحصيف والناقد المحايد المجرد من نزعات الذات، سيجد أن ما حملته رؤية وفلسفة عبدالناصر المنحازة للغالبية الشعبية، حملت من الأهداف الحضارية ببعدها الاجتماعي والإنساني ما لم تحمله أي من الفلسفات التي تغزل بها بعض المثقفين العرب قبل أن يدركوا فداحة اختيارهم، لنجد اليساري قد تحول إلى يميني واليميني أصبح متطرفاً (إسلاميا)..! فيما الثائر الريديكالي الذي تدثر ردحا من الزمن بالدثار القومي أصبح مجرد (عرضحلجي) عند أصحاب ( الجلالة والسمو)..! فإذا تابعنا أسباب ودوافع هذه (الأركسة الفكرية) علينا العودة إلى (نابليون) الذي ارتدى قبعة الإمبراطور وكان أول من اطلق شعار (يا يهود العالم استيقظوا) واضعا أسساً لفكرة (الوطن القومي لليهود في فلسطين)..! فكرة أخذ بها (هرتزل) في مؤتمر بال الأول الذي جمع عتاولة الصهاينة حلفاء الاستعمار ليضعوا مبادئ (الصندوق اليهودي والمنظمة اليهودية العالمية) التي كانت بمثابة مجلس إدارة لهذا الصندوق، غير أن شعار نابليون لم تتوفر له الفرصة عند احتلال نابليون لمصر، فتم تأجيل إمكانية تطبيقه إلى ما بعد تقاسم موروثات الإمبراطورية العثمانية الممتدة حينها من شواطئ بحر قزوين حتى شواطئ الأطلسي وشمال أفريقيا، لتبدأ الرحلة نحو (سايكس _بيكو) الذين اتفقوا على تقاسم ميراث الإمبراطورية قبل انهيارها، محددين فيما بينهم مناطق نفوذهم بعد مرحلة من تنافس فرنسي -بريطاني دام، ومع انقشاع غبار الحرب العالمية الأولى، تم توزيع ميراث (رجل أوروبا المريض) وتم إقصاء ألمانيا، فيما كانت فلسطين هدف وغاية أبطال هذه الأحداث الذين وجدوا في فلسطين حلا لمشكلة يهود أوروبا الشرقية والغرب وأمريكا أيضا، حيث كانت أوروبا تزدري يهود الشرق المهاجرين إليها، فيما يهود أوروبا بدورهم كانوا يخجلون من يهود الشرق، فكان شعار (نابليون) خياراً وحلاً للمعضلة، كانت ألمانيا تسير في طريق الثأر لذاتها من خصومها في لندن وباريس حين اكتشفت خيانة اللوبي اليهودي النافذ في أوروبا وأمريكا. ذات يوم من أيام الثورة الفرنسية أطلت الملكة (ماري انطوانيت) من شرفة قصرها لمشاهدة ثورة الجياع في شوارع فرنسا، فتساءلت أمام من حولها :ماذا يريد هؤلاء؟ فقيل لها إنهم يريدون الخبز، فردت عليهم: طيب اعطوهم بسكويت! فاقتيدت إلى المقصلة الثورية وهي ذات المقصلة التي جزت لاحقا رأس (روبسبير) خطيب الثورة وفيلسوفها..! منذ أكثر من قرنين كانت فلسطين هي المحطة التي التقى فيها المستعمرون الغربون وعندها توحدت مواقفهم الاستعمارية والتقت مصالحهم التي كفلت لهم التخلص من نزق يهود أوروبا وكانت لهم سياجا يحول بينهم وبين يهود الشرق المتخلفين، ناهيكم عن أن الغرب اتخذ من فلسطين مسرحا  لتطبيق أساطيرهم الدينية لمنح كيانهم اللقيط شرعية دينية وتاريخية وقدسية أسطورية بهدف إعطاء هذا الكيان صبغة وشرعية تاريخية ودينية وتكريس هذه المزاعم كحقائق في ذاكرة العالم في واحدة من أكبر الأكاذيب التي تبناها الغرب وأمريكا ليس حبا في اليهود، وكثير من اليهود وأحبارهم يعارضون الكيان الصهيوني ولا يعترفون به ويتحدثون صراحة أن هذا الكيان هو كيان صهيوني اخترعه الاستعمار للسيطرة على المنطقة والتحكم بمصيرها، معتبرين الكيان مجرد قاعدة عسكرية للاستعمار وجدت لحماية مصالحه الجيوسياسية والاستراتيجية. لذا كانت مشكلتهم مع عبدالناصر ليست في التحولات الثورية، ولا في مشروعه السياسي والفكري، بل مشكلتهم مع الرجل تتمحور في فلسطين وموقفه منها وعلاقته بها وإدراكه لحقيقة زراعة الكيان، وأهدافهم جراء ذلك، وإدراكهم أن مشروعه يرتكز على فلسطين وبدونها يقف المشروع القومي عند تخوم الاماني، الموقف الاستعماري الرجعي من الزعيم عبدالناصر ومشروعه القومي، هو ذاته الموقف الاستعماري من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومشروعها الحضاري، فالموقف من ناصر هو ذاته يتجدد اليوم مع إيران وبذات الأدوات.. أي أن (القدسية الصهيونية) و(العداء للسامية) كل ذلك عبارة عن خدع استعمارية ما أنزل الله بها من سلطان..! واعتقد أن معركة طوفان الأقصى استطاعت أن تنسف كل هذه الأساطير وتكشف زيفها ولكن هل ثمة من يستوعب هذه الحقائق من العرب؟ أشك في ذلك.

قد يعجبك ايضا