الاعتراف بالهزيمة والفشل مسألة غاية في الصعوبة، خصوصا من كيان يمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة وجيشاً مدرباً على أحدث التقنيات والتكتيكات العسكرية. لكن ماذا يعني الاعتراف المتكرر بأن حماس فكرة لن تختفي، سواء كان ذلك على لسان الناطق باسم جيش الاحتلال “دانيال هغاري”، أو على لسان “بيني غانتس”، العضو السابق في حكومة الحرب المنحلة -زعيم معسكر الدولة المعارض-، الذي قال بأن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها، ولكن يمكن القضاء على تطبيقاتها؟
عبارة غامضة لا تختلف عما قاله هغاري عندما أكد استحالة القضاء على حركة حماس؛ مطالبا الحكومة التي يترأسها نتنياهو بتقديم رؤية واستراتيجية لليوم التالي للحرب، ذلك أن اليوم التالي إن أطل برأسه فإن حماس لن تغيب عنه، بل ستكون حاضرة في تفاصيله وفي تفاصيل الرؤية والاستراتيجية المقترحة إسرائيليا وأمريكيا.
فكرة حماس التي لن تهزم، أقر بها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي قبل أشهر قليلة، داعيا الكيان المحتل لضرورة إعداد خطة لليوم التالي للحرب، الأمر الذي يعجز الاحتلال عن صياغته؛ لغياب البدائل الممكنة أو القادرة على الصمود في وجه المقاومة الفلسطينية كقوة صلبة، وفي مواجهة الفكرة التي تمثلها حماس كمقاومة وثقافة ملتصقة بالحاضنة الاجتماعية.
تكرار العبارة “حماس فكرة”، إقرار غير مباشر وصريح بالفشل والعجز عن إقصائها وهزيمتها كحركة مقاومة فلسطينية، إلا أن التعامل مع هذه الحقيقة، مازال يتم بوضع سياق طويل من المقترحات لمواجهة الفكرة التي تمثلها حماس، إما لمحاصرتها واحتوائها، وإما بهزيمتها بأدوات عسكرية وسياسية وبمجهود دولي وأوروبي، والأهم عربي، وهي رؤية تتجاهل الموقف الدولي المنكشف لأمريكا والاحتلال الإسرائيلي بعد المجازر المقترفة في قطاع غزة، في مقابل صمود المقاومة وتجذر فكرتها في الإقليم، وتحولها إلى أيقونة تعوزها تحالفات إقليمية يصعب القفز عنها أو فصل ساحاتها، وأخيرا صراع وتنافس دولي لن يسمح لأمريكا و”إسرائيل” بحسم المعركة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، التي تخوض مواجهة مع الصين وروسيا.
فكرة حماس تدعمها بيئة دولية وإقليمية يغلب عليها الاستقطاب والصراع، وصمود يكاد يتم شهره التاسع منتقلا إلى الشهر العاشر، فما بعد رفح التي راهن على اجتياحها نتنياهو، مازالت حماس القوة الفاعلة والمؤثرة في الميدان وفي الإقليم؛ كونها أحبطت مخططات الاحتلال في الحسم، وأعجزته عن رسم ملامح المرحلة بتعزيز انقساماته وتناقضاته الداخلية.
حركة حماس بهذا المعنى، تجاوزت كونها فكرة نحو كونها حقيقة مادية واقعة على الأرض ومؤثرة في فضائها المحلي والإقليمي، فهي جسم سياسي وعسكري مازال فاعلا، ما يجعل الرهان على تفككها من خلال الضغط العسكري وهْما وسرابا، في حين أن المراهنة على منظومة التحالفات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة العربية والإقليم لتفكيك المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، تضاعف الضغوط على الشراكة الأمريكية العربية، وتهدد بتفكك وخلخلة النفوذ الأمريكي وإضعافه.
الضغوط على بنية النفوذ الأمريكي، عنصر حاسم في إضعاف تحالفاتها وشراكاتها، إذ يتوقع أن تدفع دول المنطقة للبحث عن خيارات أقل ضررا كما حدث في الموقف المتخذ من الحرب الأوكرانية، بتمسك دول الإقليم العربية باتفاق “أوبك بلس” النفطي مع موسكو، ورفض الانضمام لتحالفات وشراكات أمريكية، عنوانها محاصرة الصين والصراع في منطقة الباسيفيك.
أمريكا تختبر تحالفاتها وشراكاتها وتضغط للدفع بها نحو أقصى طاقتها، ضغوط يتوقع أن تُلحق مزيدا من الضرر بنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، التي فقدت تأثير قوتها الناعمة لحساب المقاومة الفلسطينية وفكرة حماس الصلبة على الأرض، التي هزمت فكرة أمريكا التطبيعية في المنطقة العربية، وهو السر الكامن وراء تكرار المسؤولين الأمريكان والإسرائيليين القول؛ “إن حماس فكرة”، فهو تعبير مجازي يتجاوز الإشارة إلى الصمود الميداني والحاضنة الاجتماعية، التي أشارت إليها مجلة فورين أفيرز الأمريكية، التابعة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، في مقال للكاتب الأمريكي روبرت بيب، “حماس تنتصر”، نحو هزيمة استراتيجية إقليمية أعمق في شقيها الناعم والصلب (التطبيعي والعسكري)، هزيمة وفشل أُخفيا خلف عبارات منمقة، اعتقد الأمريكي والإسرائيلي أن التلاعب بتوصيفهما يحدّ من أثرهما، ويساعد في احتوائهما مستقبلا.