كثير هم العازفون على وتر الشرعية، وكل يدعي بها وصلا، وهم عن وصالها منقطعون تماما، ولا دلالة مطلقا لعزفهم، ولا يدرك أي منهم فحوى الشرعية، ويكتفون بترديدها فقط، وحالهم في ذلك كحال الببغاوات، التي تردد ما يلقنه لها الملقنون، دون أن تكون مدركة لمعنى ما تردده، واليوم نسمع ترويجا واسعا من هنا وهناك، أن ما تسمى بالحكومة الشرعية اتخذت قرارات في شأن البنك المركزي، وفي شأن العملة الوطنية، وفي شأن الاتصالات، وفي شأن هيئة الطيران المدني، وفي غيرها من الشؤون العامة، ومن يعزفون على وتر الشرعية يخدمون اجندات خارجية، أهدافها مكشوفة وواضحة ومعلنة، بل وسافرة، وقد سبق هؤلاء في خدمة أجندات الخارج، وتحت مسمى (الشرعية)، لكنهم لم يقيموا له ولخدماته وزنا، ولم يقيموا لشرعيته التي روجوا لها قبل أن يروجوا لشرعية هؤلاء أي اعتبار!
ومنذ ما يقرب من عقد ونصف من الزمن، طُرحت المبادرة الخليجية العابرة للحدود، لحل مشكلة ما تسمى بالشرعية في بلادنا، رغم أن الحل موجود في دستورنا، ولم نكن بحاجة مطلقا لمبادرة خليجية، تأتي من خارج الحدود، لتقول على الرئيس أن يتنازل عن سلطاته لنائبه! فلم تأتي بشيء جديد مطلقا، فالدستور نظم هذه الحالة بشكل واف وكاف، بحيث أن رئيس الدولة إذا لم يعد بمقدوره الاستمرار في مباشرة مهام منصبه، فإنه يعلن ذلك، وتنتقل بشكل تلقائي كافة الاختصاصات إلى نائب الرئيس ولفترة محددة، فما هو الجديد الذي أتت به المبادة الخليجية؟
المبادرة الخليجية بوصفها اتفاقاً سياسياً عابراً للحدود، والاتفاقات السياسية عموما إذا كانت تمس الترتيبات الدستورية لسلطات الدولة، لا قيمة لها في مواجهة القواعد الدستورية النافذة، ما لم يتم تجسيد هذه الاتفاقات في شكل ترتيبات دستورية استثنائية، وهو ما لم يحصل، أو في شكل تعديلات دستورية للدستور النافذ، وهو ما لم يحصل أيضا، وإذا كانت الترتيبات الدستورية استثنائية، فإنها يجب أن تصدر في شكل إعلان دستوري، يتضمن تعليق العمل بالأحكام الدستورية النافذة، وقد يصدر الإعلان الدستوري عن رئاسة الدولة، كما هو الحال في بلادنا سنة 1992م، عندما صدر إعلان دستوري لتمديد الفترة الانتقالية، أو عن قيادة الثورة، كما هو الحال بالنسبة لبلادنا أيضا سنة 2015م، استنادا للشرعية الثورية.
أما المبادرة الخليجية، فقد انتهكت، بشكل سافر دستور البلاد، ومثلت إهانة وقحة لإرادة شعبنا، ولأن الببغاوات لا زالت متمسكة بترديد شرعية الحكومة، بعد ترديدها لشرعية المخلوع المعتقل هادي، ولأن ذلك يمثل استمرارا للعدوان السافر على إرادة شعبنا، وحقه في الاختيار بعيدا عن وصاية الخارج وأجنداته المشبوهة، فلا بد من توضيح ما يروجون له ويتمسكون به من زيف مسمى (الشرعية) باعتبار أن شعبنا لا يقر لهم مطلقا بمشروعية، ناهيك عن أن يقر لهم بشرعية!
ولأن التضليل من أهم وسائل الحرب التي اعتادت على استخدامه القوى الاستعمارية الغربية، وأدواتها في المنطقة، وعملاؤها في الداخل، فلا بد أيضا من توضيح وفضح ما هم فيه من زيف والتباس، وما هم عليه من تضليل، ليعرف المضللون أنه لا مشروعية لتصرفاتهم، وأن تلك التصرفات لا تعدو عن كونها جرائم يرتكبونها في حق الشعب، الذي سيحاسبهم عليها إن عاجلا أم آجلا، وقبل توضيح معنى (الشرعية) يجدر بنا إثارة تساؤل في غاية الأهمية، وهو: هل يملك أولئك مشروعية لوجودهم في مسمى السلطة، وهل يملكون مشروعية لتصرفاتهم التي يخدمون بها أجندات الخارج؟
مبدأ المشروعية يعنـــــى وجوب احترام أحكام القانون من جانب الحكام والمحكومين، ولا يقتصر معنى القانون هنا على القانون الصادر عن البرلمان، بل يشمل القانون بمعناه الواسع ابتداء بالدستور وانتهاء باللوائح، والقانون بمعناه الواسع – بوصفه الناظم لعلاقات الأفراد في ما بينهم وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة- يتوجب احترامه ليس من جانب الأفراد فحسب، بل من جانب القائمين على مؤسسات الدولة، ويظهر احترام قواعد القانون من خلال مدى مطابقة التصرفات الصادرة عن شاغلي مناصب السلطة العامة لقواعد القانون النافذ.
وإذا ما قارنا بشكل مبسط مدى التزام أولئك بالقانون وعلى رأسه الدستور طبعا، ولنبدأ أولا بمسألة إسناد السلطة، كيف تم إسناد السلطة إليهم؟ وما مدتها الزمنية؟ وأين تم ذلك الإسناد؟ وما دور الشعب فيه؟ بكل بساطة تم إسناد السلطة من جانب قوى خارجية! وتحديد المدة راجع لها! ولمدى استجابة من أسندت إليهم السلطة لتنفيذ أجنداتها! وتم ذلك الإسناد خارج حدود الجمهورية اليمنية! التي تعد النطاق الجغرافي، الذي يسري فيه القانون الوطني وعلى قمته الدستور، ولم يكن للشعب دور يذكر في ذلك الإسناد! وكيف يمكن أن يكون للشعب دور والإسناد تم أساسا خارج النطاق الجغرافي للبلاد؟
وليس مستبعدا أبداً أن يأتي أحدهم ليقول: وأنتم من أسند لكم السلطة، وهل احترمتم القانون؟ وهذا سؤال منطقي ومن حق السائل أن يتلقى الجواب على سؤاله، فنقول له: نحن في صنعاء، وهي بنص الدستور عاصمة الجمهورية اليمنية، هذا أولا فنحن لسنا خارج البلاد، وإسناد السلطة تم بموافقة شعبية، وهذه الموافقة قائمة ومستمرة، والإسناد لمدة محددة، ولم يتم هذا الإسناد بواسطة قوى خارجية! وهذا عكس ما عليه حال أولئك تماما، وما هو مثار أيضا أن حكومة صنعاء سيطرت على السلطة عن طريق الانقلاب!
وحقيقة لو كان هذا الطرح صحيحا، وهو أن السيطرة تمت عن طريق الانقلاب، فإنه ليس عيبا ابدا ولقلنا نعم، سيطرنا على السلطة عن طريق الانقلاب، لكن الصحيح هو أن الثوار قد سيطروا على السلطة من خلال ثورة شعبية عارمة، وهذا حق للشعب، ليس للقوى الخارجية أن تحاسبه على حقه في الثورة على اللصوص والمجرمين والخونة والعملاء، وإذا كان الأمر كذلك فإن حكومة الثورة تملك مشروعية لوجودها في السلطة، وتملك مشروعية لتصرفاتها تنفيذا لما يخوله لها القانون من صلاحيات، بينما أولئك لا يملكون أدنى مشروعية لوجودهم في السلطة، وبالنتيجة لا يملكون مشروعية لتصرفاتهم المنتهكة للقانون.
وإذا كان أولئك لا يملكون سندا لمشروعية وجودهم في السلطة، وأن ما هم فيه لا يعدو عن كونه استنساخاً لمؤسسات الدولة، وانتحالاً لصفات شاغلي مناصبها العليا، وتلك جرائم يعاقب القانون مرتكبها، وإذا كان معنى المشروعية ينصرف كما أوضحنا سابقا إلى احترام قواعد القانون المطبقة في المجتمع – بمعناها الواسع- فإن (الشرعية) تنصرف في معناها إلى ما هو أسمى من مجرد احترام قواعد القانون الوضعي العادلة، فالشرعية تتضمن مبادئ وقيماً ومثلاً عليا تُستلهم عند سن القوانين للارتقاء بها.
وإذا كانت الشرعية تمثل القيم والعدالة والمثل العليا، فأين أولئك الأدعياء من القيم والعدالة والمثل العليا؟ فعندما قالوا شرعية هادي، هل كان هادي يمثل قيمة تذكر وهو مرمي في حظائر حيوانات الملوك المستبدين والشيوخ المنحرفين؟ وهل كان يمثل العدالة، وهو لا يجرؤ على مغادرة قفصه إلا بإذن مروضه؟ وماذا يتوافر لمن خلفوه بمسمى (مجلس القيادة الرئاسي) من قيم وعدالة ومثل عليا؟ وحالهم لا يختلف عن حال سلفهم، بل أسوأ منه بكل الاعتبارات! فكيف يمكن أن يوصف أولئك بأنهم أصحاب شرعية؟
ولا قيمة مطلقا للحاكم الذي يملك سنداً من المشروعية، ولا احترام لهذا السند إلا بقدر تطابقه مع الشرعية، وما تتضمنه من قيم وعدالة ومثل عليا، وإذا انتفى هذا التطابق، فإنه يحق للشعب أن يسقط الحاكم، وقد يأتي من يقول إنكم تتناقضون حين تقولون إن المشروعية هي احترام الحكام والمحكومين للقانون بمعناه الواسع، فكيف تجيزون الآن للمحكومين إسقاط الحاكم، وهو يملك سند مشروعية لحكمه؟
وهذا تساؤل جدير أن يحظى صاحبه بإجابة تزيل عنه كل أوجه الالتباس، فلنفترض أن الحاكم وصل إلى سدة الحكم عبر انتخابات شعبية لا غبار عليها، فإن الأصل أن حيازة الحاكم للسلطة تمت بطريقة مشروعة هي الانتخابات، ولمدة معلومة محددة مسبقا، والأصل أن يعمل على تحقيق العدل بين المواطنين، وأن يعمل على تسخير الموارد العامة لتحقيق حياة كريمة لأفراد الشعب، لكن الحاكم إذا ما استبد بالمحكومين، وسخر الموارد العامة لتحقيق مصالح خاصة به وبحاشيته، التي تظلم الناس، وهو لا يزال في مدة ولايته الدستورية، فهل يتوجب على المحكومين الصبر على ظلم الحاكم بحجة أنه منتخب وفقا للقانون وبطريقة مشروعة، وألا يعترضوا عليه؟
هذه الصورة تم تكريسها في أنظمة الحكم الديكتاتورية الملكية الوراثية في المنطقة العربية، فعمل علماء السلطة في هذه الأنظمة على الترويج لطاعة الحكام تحت عنوان (طاعة ولي الأمر) وعدم الخروج على الحاكم وإن بلغ ظلمه بحقهم ما بلغ، وأن على المحكومين الدعاء للحاكم بالهداية والصلاح، وذات الثقافة سادت في الأنظمة الجمهورية المتلبسة بلباس الديمقراطية، ولذلك، وفي ما سُميت بثورات الربيع العربي وقع العلماء الذين حرضوا على الحكام في مأزق! وهم أنفسهم من روجوا لطاعة ولي الأمر وإن أخذ مالك وجلد ظهرك وانتهك عرضك، وهؤلاء العلماء يعتبرون من يخرج على الحاكم مرتكباً لجريمة، لكنهم في ذات الوقت حرضوا عددا من الشعوب العربية على الثورة ضد حكامها.
والأصل وفقا لمبدأ المشروعية، الذي يعني احترام الحكام والمحكومين للقانون بمعناه الواسع، أن أي أفعال من جانب المحكومين تمس نظام الحكم تعد مخالفة للقانون النافذ، وتعتبر الثورات خروجاً على القانون، ولذلك تحت هذا العنوان نكَّل الحكام بالمحكومين، الذين حاولوا الثورة على أنظمة حكمهم الفاسدة الظالمة، وحين فشلت ثورتهم كان مصيرهم غياهب السجون والمعتقلات والمشانق والإعدامات بأشكال وصور مختلفة، ووجد من العلماء من برر للحكام تلك الفظائع بحق الثوار.
ومثلما وجدت هذه الثقافة في النظم العربية، هي كذلك موجودة في النظم الغربية، لكن فقهاء القانون في هذه النظم كانوا أكثر صدقا وشجاعة من ففقهاء الشريعة في الأنظمة العربية، ففي الوقت الذي وصل فيه فقهاء الغرب إلى قناعة مفادها أن احترام المحكومين للقانون، مرتبط بمدى عدالة هذا القانون، فإذا ما أصبح القانون أداة بيد الحاكم لظلم المحكومين والتسلط عليهم والتعسف بحقوقهم، ففي هذه الحالة أصبحت المشروعية القانونية للحكام غير متفقة مع ما تتضمنه الشرعية من قيم وعدالة ومثل عليا، وإذا ما أصبح الأمر كذلك فلم يعد المحكومون ملزمين باحترام القانون، الذي يمنح للحكام مشروعية وجودهم في السلطة ومشروعية تصرفاتهم.
ولأن فعل الثورة بحد ذاته يمثل، من وجهة نظر الحكام المستبدين، جريمة وفقا للقانون النافذ الظالم، فقد استخلص فقهاء الغرب قاعدة مهمة في هذا المجال مضمونها (شرعية الثورة على المشروعية الظالمة) وتعني هذه القاعدة حق المحكومين في مقاومة الحاكم الظالم وإسقاط نظام حكمه، والفقهاء الغربيون حين استخلصوا هذه القاعدة لتبرير ثورات الشعوب على حكامها الظلمة، إنما كان ذلك لقناعتهم أن (الشرعية) أسمى من كونها قيمة بشرية، بل هي قيمة فوق بشرية، فهي تتضمن قيماً سامية ومثلاً عليا وعدالة مطلقة، وكل هذه الصفات لا يتمتع بها البشر.
والأصل أن الشرعية في الشريعة الإسلامية لله سبحانه وتعالى، فهو صاحب الشرعية المطلقة، ولا يصح مطلقا إطلاق مصطلح الشرعية على أفراد أو جهات، فالصواب أن نقول إن الحاكم في النظام الإسلامي، يملك مشروعية في حيازته لمنصب السلطة العامة، ولما يصدر عنه من تصرفات مخولة لمنصبه، وهذه المشروعية ترتبط ارتباطا غير قابل للانفكاك، بمدى تطابقها مع (الشرعية)، فإذا خالفتها، وجب على المحكومين الثورة على الحاكم، وهذا ما هو معروف في الفقه الزيدي بالخروج على الحاكم الظالم، ولعل فقهاء الغرب قد استخلصوا قاعدتهم (شرعية الثورة على المشروعية الظالمة) من مبدأ الخروج على الحاكم الظالم المعروف في الفقه الزيدي.
ووفقا لذلك فلا أساس لسابق وصف هادي بأنه صاحب شرعية، ولا أساس لوصف حكومة العملاء في الوقت الراهن، بأنها هي الحكومة الشرعية، فهادي ومن بعده حكومة العملاء، لا تتوافر لهم مشروعية لشغل المناصب العليا في الدولة، ولا مشروعية لتصرفاتهم التي صموا بالترويج لها الأذان، وخلاصة القول إنه (لا مشروعية لأدعياء الشرعية).