للمرة الأولى منذ العام 2006 تسجل المناطق الحدودية بين الكيان الإسرائيلي ولبنان حالة توتر عالية وغير مسبوقة أشاعت القلق من حرب طويلة بين الكيان الصهيوني وحزب الله مرشحة للتطور إلى حرب إقليمية واسعة، بعد إعلان الكيان نيته شن الحرب على حزب الله وشروعه باستدعاء الدعم الأمريكي للحرب، غير أن أحدا ليس لديه اليقين بإمكان تورط العدو الصهيوني بحرب لا يعرف مدى رقعة توسّعها ولا مدتها الزمنية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
على أن الأسابيع الماضية كانت الأكثر سخونة وتوترا بين الكيان الإسرائيلي وحزب الله إلا أن مستوى التوتر ارتفع إلى مستويات غير مسبوقة بعد التهديدات العلنية التي أطلقتها حكومة الكيان لاجتياح مناطق في الجنوب اللبناني، وما تلاها من تحريك الولايات المتحدة حاملة الطائرات “ايزنهاور” إلى البحر الأبيض المتوسط في مهمة قالت إنها متعلقة بدعم حكومة الكيان في حربه الوشيكة على حزب الله.
وخلال الأيام الماضية ابلغ مسؤولون أمريكيون نظراءهم في لبنان بأن الهجوم الإسرائيلي صار وشيكا، بالتوازي مع وصول تحذيرات إلى لبنان من مسؤولين أمريكيين وأوروبيين تفيد بأن واشنطن حسمت أمرها بدعم حكومة الكيان عسكريا وأنها لن تستطيع منع ربيبتها إسرائيل من غزو لبنان إذا واصل حزب الله هجماته العسكرية الدعمة للفلسطينيين في قطاع غزة.
تزامن ذلك مع مباشرة العدو الإسرائيلي تحركات عسكرية شملت إعادة نشر تشكيلاتها العسكرية الكثيفة التي كانت تنشرها في قطاع غزة منذ نحو 9 أشهر، استعدادا لمرحلة جديدة سيتم خلالها نشر قوات أكثر على الحدود الشمالية مع لبنان، ناهيك بإعلان حكومة الكيان موافقة جيش الاحتلال على ما سماه “خطط عملياته لهجوم عسكري على لبنان قد يستمر عدة أشهر بهدف إرغام حزب الله” على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني على مسافة 30 كيلومتراً من الحدود الخاضعة لمراقبة الأمم المتحدة.
زاد من ذلك التقييم الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية والذي أكد أن الوضع على الحدود الشمالية لإسرائيل مع جنوب لبنان وصل مؤخرا إلى نقطة تحول خطير نذر بتفجر صراع مسلح دون سابق إنذار مرجحا أن الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان قد يبدأ بحلول منتصف يوليو المقبل.
هذه التداعيات دفعت الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش إلى إطلاق تحذيرات من مخاطر كارثية نتيجة تصاعد حدة التوتر بين إسرائيل وحزب الله وتأكيده أن العالم لن يسمح بتحول لبنان إلى غزة أخرى، معتبرا أن “الخطاب العدائي” يثير مخاوف من كارثة “لا يمكن تصورها” بينما دعت دول عدة رعاياها إلى مغادرة لبنان وسط ترتيبات باشرتها دول أخرى لسحب بعثاتها الدبلوماسية من بيروت.
احتمالات الحرب
رغم حالة القلق والصخب التي أشاعتها تصريحات مسؤولي حكومة الكيان بشأن الحرب الوشيكة على لبنان إلا أن معطيات الراهن السياسي والاقتصادي والعسكري للكيان تُرجح استبعاد تورط العدو في شن حرب مفتوحة وواسعة على حزب الله، بالنظر إلى حالة الانقسام والخلاقات التي تعصف بحكومته وما يعانيه الجيش الإسرائيلي من حالة إنهاك كبيرة جراء حربه الوحشية في قطاع غزة منذ نحو 9 أشهر، وأكثر من ذلك تآكل الدعم الدولي لحكومة الكيان والذي بلغ أسوأ حالاته في الآونة الأخيرة.
وبحسب دوائر القرار الصهيوني فإن قرار فتح جبهة حرب جديدة يحتاج إلى موافقة سائر أعضاء مجلس الحرب وكذلك القادة العسكريين الذين يشعرون أن مهمتهم العسكرية في قطاع غزة لم تكتمل، في ظل التحفظات التي يبديها البعض من مخاطر الانخراط في حرب إقليمية واسعة في هذا التوقيت.
هذا الأمر عبّر عنه بوضوح رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي الذي أكد أن دولة الكيان ليست في وضع مناسب لخوض قتال على الجبهتين الشمالية والجنوبية بل وتأكيده أن القتال مع حزب الله سيكون معقدا الآن أو لاحقا.
والتقديرات الإسرائيلية الواقعية تقول إن ما يدور حاليا في قطاع غزة يمكن أن يقدم مؤشرا موثوقا على خطأ تورط حكومة الكيان بحرب مع لبنان في الوقت الراهن، كون المعارك التي تقودها في قطاع غزة مستمرة منذ نحو 9 أشهر دون أن تحقق أيا من أهدافها المعلنة في القضاء على ما تسميه الذراع العسكرية لحركة «حماس» وإنهاء حكمها في قطاع غزة، وهو الأمر الذي أكده قبل أيام رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو بإعلانه أن العمليات العسكرية المكثفة التي يشنها جيش الاحتلال في قطاع غزة قد تتوقف لكن الحرب ستستمر لحين تحقيق أهدافها.
يضاف إلى ذلك أن العديد من المسؤولين في حكومة الكيان يقرون أن انخراط جيش الاحتلال في جبهة حرب جديدة سيضاعف من خسائره العسكرية والاقتصادية كما سيكرس نوعا من العزلة الدولية على الكيان خصوصا وأن داعميه الغربيين وفي الصدارة الولايات المتحدة الأمريكية لا يريدون توسيع رقعة الحرب إلى حرب إقليمية.
حرب دعائية
بعد التحول الكبير في الخطاب السياسي الإسرائيلي مؤخرا والذي نقل سهامه باتجاه السلطة الوطنية الفلسطينية بدا واضحا أن ما تعلنه حكومة نتنياهو بشأن الاستعداد لشن حرب على حزب الله لإجباره على الانسحاب إلى ما بعد نهر الليطاني، ليس سوى حرب دعائية سياسية لخلط الأوراق وتخفيف الضغوط الدولية، في ظل اعتراف العديد من مسؤولي حكومة الكيان عدم امتلاكهم أي إمكانية لخوض حرب يمكن أن يسجل فيها جيش الاحتلال انتصاراً عسكرياً حقيقياً.
يشار في ذلك إلى أن قوات جيش الاحتلال البرية صارت اليوم منهكة نتيجة 9 شهور من الحرب في قطاع غزة، مقابل امتلاك حزب الله قوات مدربة تدريبا عاليا ولديها من الإمكانيات والتسليح والمزايا الجغرافية ما يمكنها من إلحاق هزيمة قاسية بجيش الاحتلال في حال أقدم على اجتياح بري لجنوب لبنان.
ومن جانب آخر فإن حكومة الكيان لن تستطيع الصمود أمام المتطلبات العسكرية واللوجيستية للحرب مع حزب الله بعد التقارير التي تحدثت عن تضعضع قوات الاحتياط نتيجة الاستدعاءات المتكررة لها وتسريحها مرات عدة بما قلل كثيرا من المعنويات القتالية لدى هذه القوات.
والتقديرات الإسرائيلية تؤكد أن أي حرب جديدة مع حزب الله ستقود إلى عمليات نزوح كبيرة لسكان المستوطنات الحدودية إلى الداخل الإسرائيلي لن يكون بإمكان حكومة نتنياهو تحمل تبعاتها الاقتصادية في ظل الخسائر الكبيرة التي هزت الاقتصاد الإسرائيلي خلال الشهور الماضية وأجبرت جيش الاحتلال على الشروع بإجراءات لإنهاء خدمة جزء من قوات الاحتياط لتخفيف العبء الهائل الذي يتكبّده الاقتصاد الإسرائيلي فضلا عن الأعباء التي يتكبدها جنود الاحتياط وعائلاتهم.
حسابات معقدة
يمكن القول إن التصريحات التي تطلقها حكومة الكيان بين الحين والآخر تجاه حربها الوشيكة على حزب الله لا تزيد عن كونها تهديدات شديدة اللهجة، في ظل حالة عدم اليقين تجاه قدرة جيش الاحتلال على مواجهة حرب مفتوحة تتصدر فيها الصواريخ معادلة الردع، بالنظر إلى ما يمتلكه حزب الله من ترسانة صاروخية يمكنها تسديد ضربات قاتلة في أكثر المدن الإسرائيلية.
يزيد من ذلك أنه لن يكون بوسع حكومة الكيان حصر الحرب على الجنوب اللبناني، فحالة التوتر والغضب المشتعلة تجاه الكيان نتيجة جرائم الإبادة التي سجلها في قطاع غزة ستجعل من أي حرب على جنوب لبنان مفتاحا لحرب واسعة وسط ردود عسكرية عنيفة على إسرائيل من اتجاهات عدة لن تصمد معها الآلة العسكرية الإسرائيلية طويلا بما في ذلك نظام القبة الحديدية الذي تراهن حكومة الكيان عليه لتأمينها.
وقد لفت الأمين العام لحزب الله مؤخرا إلى هذه الجزئية، بتأكيده أن الرد على العدو سيكون بريا وبحريا وجويا سيما بعد أن تمكن الحزب من تطوير قدراته العسكرية وحصوله على أسلحة جديدة يمكنها فعلا أن تغير المعادلات القائمة.
وعلى المستوى الدولي فإن الحسابات الدولية لا تبدو هذه المرة متوافقة مع حسابات نتنياهو الباحث عن ملاذ يخرجه من أزماته الداخلية، فالجميع يرون أن تهديدات نتنياهو وحكومته بإشعال حرب مع حزب الله ليس لها ما يبررها سوى إشباع طموحات نتنياهو للبقاء في السلطة، في حين أن خطوة كهذه ستزيد حتما من مخاطر نشوب صراع واسع في المنطقة لن يكون بإمكان أحد السيطرة عليه أو على نتائجه في المدى المنظور.
وأكثر التقديرات تؤكد أن أي حرب إسرائيلية مع حزب الله في الوقت الراهن ستخرج عن السيطرة إلى حرب إقليمية واسعة لا تريدها الولايات المتحدة الأمريكية ولا دول العالم بما يعني أنها ستلقي بآثار كارثية مباشرة ليس على حكومة نتنياهو وحسب بل على مستقبل الكيان خصوصا وأن انخراطها بحرب كهذه سينهي كليا علاقاتها مع حلفائها الدوليين وسيُبقى في المقابل دولة الكيان محشورة في حرب طويلة ستقود حتما إلى عسكرة المجتمع الإسرائيلي بكلفة باهظة قد تأتي على الاقتصاد الإسرائيلي برمته.
ولعل طلب وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مؤخرا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتدخل المنظمة الدولية فورا لتهدئة التوترات الحاصلة في الحدود الشمالية لإسرائيل، يفسر حجم المخاوف لدى أقطاب آخرين في حكومة الحرب الإسرائيلية من مخاطر اشتعال هذه الحرب.
أما الإعلانات المتكررة لنتنياهو بشن حرب على حزب الله، فقد كان مفهوما الهدف منها وهو تخفيف الضغوط التي تفرضها عليه إدارة الرئيس الأمريكي جو باين تجاه حربها الوحشية على المدنيين في قطاع غزة، في حين أن الانتقادات العلنية التي وجهها مؤخرا للإدارة الأمريكية أرادت فقط توصيل رسالة إلى الإدارة الأمريكية الحالية بقدرة إسرائيل على فرض مناخات سياسية داعمة لها من بوابة الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.
سيناريوهات محتملة
في مقابل السيناريو الذي يتحدث عن حرب واسعة بين إسرائيل وحزب الله في الجنوب اللبناني، ثمة معطيات أخرى أكثر واقعية تشير إلى سيناريو آخر، يرجح استمراراه في الأسابيع القادمة، تبقى فيه حالة التوتر القائمة حاليا بين الجانبين ضمن معادلة الهجوم والرد على طول مناطق الشريط الحدودي مع احتمال أن يتصاعد تبادل إطلاق النار اليومي بين الجانبين من دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
ما يرجح هذه القراءة أن حكومة الكيان اليوم وبعد المجازر المروعة التي ارتكبتها في قطاع غزة، لم تعد تحظى بالدعم الدولي الكافي لدعمها في تحقيق انتصار عسكري في حرب جديدة، وخصوصا من جانب الولايات المتحدة التي تعارض شن إسرائيل حربا في جنوب لبنان خشية أن تقود إلى حرب إقليمية واسعة.
وفي أسوأ السيناريوهات فإن إسرائيل قد تشن هجمات جوية واسعة على جنوب لبنان، حيث يتمركز حزب الله كما حصل في مدن قطاع غزة دون أن تّقدم على توغل بري في الجنوب.
والسبب في ذلك أن حزب الله استطاع خلال السنوات الماضية مراكمة قدراته العسكرية بما جعله محصنا من أي غزو إسرائيلي بري، في حين أن لديه اليوم إمكانيات ردع كبيرة قياسا إلى الإمكانيات التي كان يمتلكها في عام 2006، بما في ذلك مئات الصواريخ الباليستية الموجهة بدقة والتي يمكن إطلاقها من مخابئ محصنة ومنصات إطلاق متحركة قد تمثل كابوسا بالنسبة لحكومة الكيان، ناهيك عن امتلاكه ترسانة قوية في الطائرات المسيرة.
على أن المُرجح أن تستمر حالة الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله على حالها الحاصل اليوم لأسابيع وربما لأشهر قادمة إلا أن ذلك لا يعني أن الوضع سيبقى على حاله، فاستمرار حالة التوتر في ظل الهجمات المتبادلة قد تفضي إلى تداعيات مفاجئة قد تفجر حربا شاملة بين الجانبين دون تخطيط مسبق.