الاستعباد والاستعمار والتمييز العنصري

طاهر محمد الجنيد

 

تخلصت جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري الذي فرضه الاستعمار الأوروبي بموجب القوة والسيطرة وجعله قانوناً يمشي عليه الجميع، وما زالت دول قارة إفريقيا بكاملها خاضعة للاستعمار والاستبعاد ولكن بأشكال وصور مختلفة، حيث غيَّر المستعمرون الجدد وطوَّروا أساليبهم بواسطة شبكات الاستخبارات والجيش والعملاء والخونة الذين يعملون لحماية مصالح دول أوروبا على حساب شعوبهم.
كانت إفريقيا قارة مسلمة مع وجود بعض القبائل الوثنية ولما فشلت الحروب الصليبية وأراد الغرب أن ينهي سيطرة المسلمين على الطرق البحرية، والوصول إلى الهند والصين، اكتشف الأوروبيون القارة وجعلوا أهلها عبيدا لهم، وقودا في المعارك وعبيدا لإنجاز المهام في المصانع والأعمال وغيرها.
فمن إجمالي مساحتها (11.262.000) ميل مربع يسكنها (198) مليون نسمة، كلها خاضعة لخمسة ملايين مستعمر أوروبي جاءوا إليها واستولوا على خيراتها ومواردها وسخروا سكانها واستعملوهم كعبيد، حيث (اقترن الاستعمار بالاستغلال والدهاء والجشع والقسوة البالغة ويكفي أن يقوم أحدهم بوضع علم دولته للسيطرة على بقية أجزاء الدولة، تم تقاسمها بين دول أوروبا بموجب اتفاقية برلين 1885م، سيطرت فرنسا على 4.022.150 ميلا مربعا من القارة ويسكنها 44.152.600 من البشر، وبريطانيا على 2.025.919 ميلا مربعا ويسكنها 62.433.645 إنسانا، وبلجيكا على 994.300 ميل مربع وما يزيد على 12 مليونا، والبرتغال على 778.000 (1) وأيضا ألمانيا وهولندا، وهكذا رسم المستعمرون الجدد خارطة العالم واقتسموا ثروات القارات التي استولوا عليها، واسقطوا الخلافة العثمانية التي كانت تشكل عقبة أمام سيطرتهم ونفوذهم وأنشأوا بالتعاون مع اللوبي اليهودي- الكيان الصهيوني- الذي سيكون له الفضل في استمرار سيطرتهم، واستمرار تفرق الدول في القارتين (آسيا وإفريقيا).
وإذا كانت جنوب إفريقيا هي نموذج الفصل والتمييز العنصري في إفريقيا، فإن الكيان الصهيوني يمثل النسخة البشعة في أرض فلسطين ولكن وفق دعوى “الحق الإلهي “شعب الله المختار” وفلسطين باعتبارها “ارض الميعاد، وهي بذلك تمثل العنصرية “الشاذة” التي تجمع يهود العالم، وفكرة إبادة الشعب الفلسطيني، بل إبادة جميع من ليس يهوديا لتصفو لهم وحدهم.. وهي حسب وصف الكاتب اليهودي، “إسرائيل شاحاك”- لدولة عنصرية بكل معنى الكلمة.. الصهيونية أسوأ من نظام الإبارنيد في جنوب إفريقيا، (2)، نمت الثروات الأوروبية بفعل الاستغلال الجشع لقارة إفريقيا، واتجهوا لإسقاط الخلافة العثمانية ولكنهم قبل ذلك اقتسموا مناطق السيطرة والنفوذ التي يريدونها بموجب اتفاقية سايكس بيكو مايو 1916م وذلك لضمان عدم المنافسة أو المواجهة بينهم، وعززوا ذلك بموجب المعاهدة التي فرضوها (معاهدة لوزان 1924م) لفصلها عن العالم والاستيلاء على الأقاليم التي كانت خاضعة لها.
استولى الصهاينة على فلسطين ومارسوا الإجرام والتهجير لسكانها، مستخدمين المذابح الجماعية والمصادرة للأراضي وهدم البيوت وقلع أشجار الزيتون وغيرها من المحاصيل وهي المصدر الذي يعتمد عليه السكان في الحصول على القوت الضروري، وتنبهت الجمعية العامة فأصدرت القرار رقم (181) “200” 1947م لتأكيد حق العودة وأشار إلى قرار التقسيم وصك الانتداب الذي ينص على أنه (لا يجوز التمييز بين السكان بأي شكل من الأشكال على أساس العنصر أو الدين أو اللغة أو الجنس) وأخذ التزاما على اليهود وشرطا كونها السلطة التي تم تسليم فلسطين لها بتمكين عودة النازحين إلى ديارهم التي خرجوا منها، ولكن الأمر سار عكس ذلك، حيث ازدادت المذابح ضدهم لتهجيرهم، وهنا ترسل الأمم المتحدة وسيطاً دولياً (الكونت برناروت) الذي وصل وشاهد ورفع تقريراً واقعياً، والذي بسببه اغتالته العصابات الإجرامية الصهيونية التي كان يرأسها إسحاق شامير –آنذاك- على حيث جاء في التقرير: “إنها ستكون إساءة إلى مبادئ العدالة الأساسية إذا ما أنكر على هؤلاء الضحايا الأبرياء حق العودة إلى ديارهم في حين يتدفق المهاجرون اليهود نحو فلسطين”.
إن حق الناس الأبرياء، الذين اجتثهم الإرهاب الحاضر، وأهوال الحرب من ديارهم، في العودة لديارهم أمر يجب تأكيده وإعماله، مع كفالة دفع تعويض كافٍ عن ممتلكات الذين يختارون عدم العودة” (3)، فالعنصرية الاستعمارية، والتمييز والفصل العنصري، أدى إلى أن تقوم إسرائيل بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بالقوة والقانون والجرائم والقتل والتشريد، فاستولت على ما يقارب أكثر من (90 %) من المساحة الإجمالية لأرض فلسطين وفقاً لتقارير الأمم المتحدة.
المستوطنات تبنى على حساب تلك الأراضي، والجدار العازل يبنى لحمايتها وعزل البقية من أبناء الشعب الفلسطيني الذين صمدوا في وجه الاحتلال، ومع ذلك فالإجراءات القمعية والهادفة إلى تضييق الخناق عليهم ودفعهم إلى المغادرة هو ما تحسنه حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة وهو ما صرح به بن غفير: “إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصهيونية، أدت إلى نزوح نصف مليون فلسطين من غزة”، هذا قبل الحرب، وبذلك فإن الحرب ستكمل البقية بحيث يتم تفريغ قطاع غزة من سكانها.
وإذا كانت دول أوروبا وأمريكا قد قبلت القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإنها لن تقبل باستغلال فلسطين نظراً للأهمية التي تمتلكها كنقطة التقاء وموقع متميز بين قارتي آسيا وأفريقيا، فما زالت ثروات آسيا وأفريقيا تمثل أهم الموارد الاقتصادية لميزانيات دول الحلف الصهيوني الصليبي، وأيضاً السيطرة على مراكز القرار لتلك الدول، مما يشكل داعماً أساسياً في تمرير القرارات الدولية لصالح القوى العظمى والمتحالفين معها، وهي حقيقة يؤكدها مؤسس الصهيونية العالمية هرتزل: “انهم سيكونون لأوروبا في فلسطين قطعة سور ضد آسيا كما يكونون الحفير المسبق للحضارة ضد البربرية” (4).
المعركة اليوم تدور على أرض غزة، لكن آثارها ونتائجها ستطال كل أنظمة الخيانة والعمالة التي كان لها الدور الأكبر في إنشاء الكيان الصهيوني وسيطرته، وأيضاً الأنظمة الإجرامية للحلف الصليبي الصهيوني الجديد، ولن تستطيع تلك الدول ممارسة التضليل والخداع ونشر الأكاذيب فيما يخص حقيقة الصراع على أرض فلسطين، فهو صراع بين عقليات إجرامية متعطشة لسفك الدماء وإبادة كل مظاهر الحياة، وبين إنسان بغي عليه وصُودرت حقوقه وإنسانيته، أما أنظمة الخيانة والعمالة حتى وإن احتمت بالدعم والتأييد من الموجدين لها، فإن الشعوب أصبحت تدرك اليوم حقيقتها وعمالتها وإفسادها ودعمها للإجرام المسلط على أبناء الشعب العربي المسلم في فلسطين، وفي غيرها من بلدان العالمين العربي والإسلامي، وسيتحقق وعد الله لا محالة (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).

د. حامد سلطان «القانون الدولي العام –وقت السلم» صـ355
د. سعدة بوعبد الله “التمييز العنصري والقانون الدولي” صـ39
تقارير الأمم المتحدة “حق الشعب الفلسطيني في العودة” صـ 13
د. سعدة بوعبد الله- مرجع سابق عن “روجرمورداي” صـ212

قد يعجبك ايضا