أجواء متوترة تسود دول القارة الأوروبية مع تصاعد المخاوف من نذر حرب وشيكة مع روسيا دفعت بموسكو- ومعها العديد من دول القارة الأوروبية- إلى إطلاق استعدادات عسكرية ومخابراتية واسعة النطاق، تنتظر فيها روسيا تدخلا مباشرا من “الناتو” في الحرب الأوكرانية بينما تنتظر فيها أوروبا حربا وشيكة مع روسيا لمواجهة ما تعتبره أسوأ تهديد وجودي لدول القارة الأوروبية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
بعد عامين من الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، تبدو الدول الأوروبية على بعد خطوة واحدة من الحرب مع روسيا. فالدعم العسكري الواسع النطاق الذي قدمته لأوكرانيا تصاعد كثيرا مؤخرا بمنح الولايات المتحدة والغرب الضوء الأخضر لأوكرانيا استخدام الصواريخ الغربية لضرب أهداف في العمق الروسي، الخطوة أججت الغضب الروسي وحولت القارة الأوروبية برمتها إلى منطقة صراع دولي مرشحة للانفجار في أية لحظة.
تداعيات الأيام الماضية كانت الأخطر في ملف الحرب المندلعة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين، بعد استهداف الجيش الأوكراني مواقع بداخل الأراضي الروسية، بالتوازي مع استعدادات عسكرية أوروبية لمواجهة ما سماه الرئيس الأمريكي جو بايدن تهديد يستهدف كل دول أوروبا، ما دعا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، دول الاتحاد إلى الاستعداد للحرب مع روسيا وتعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي بشكل مشترك.
تزامن ذلك مع دعوة الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ إلى السماح للجيش الأوكراني بشن ضربات على الأراضي الروسية بالأسلحة الغربية بل وتأكيده ضرورة أن تكون أوكرانيا قادرة على استخدام الأسلحة الغربية ضد أهداف في روسيا.
هذا الأمر عكس توجها أوروبيا جديا تقوده بريطانيا التي منحت الجيش الأوكراني أول أذن باستخدام الصواريخ البريطانية لضرب الأراضي الروسية، وكذلك فرنسا التي أعلن رئيسها عزم بلاده تسليم أوكرانيا طائرات مقاتلة من طراز ميراج 2000-5 وتدريب طيارين أوكرانيين وإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، بالتزامن مع شروع العديد من دول “الناتو” بدراسة خيار حماية المجال الجوي لغرب أوكرانيا واطلاقها مفاوضات لإرسال مدربين من “الناتو” إلى أوكرانيا.
هواجس أوروبية
التصعيد الغربي تجاه روسيا اشعلته في الواقع مخاوف من أن هزيمة أوكرانيا في الحرب صارت وشيكة، وأنها قد تفتح الطريق لروسيا لشن هجمات انتقامية ضد الدول الأوروبية ولا سيما تلك التي انضمت حديثا إلى حلف “الناتو”، فضلا عن الدول الأوروبية التي قدمت الدعم العسكري للجيش الأوكراني وشاركت في فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا.
هذه التقديرات دعت دول الاتحاد الأوروبي ولا سيما الدول الأعضاء في حلف “الناتو” إلى اتخاذ إجراءات عسكرية فرضت أجواء الحرب بقوة بعد ذهاب بعضها إلى استدعاء قوات الاحتياط وإصدار قوانين للتعبئة العامة وشروعها بإنشاء جدار المسيرات الحربية في 6 دول متاخمة لروسيا، يمتد من النرويج إلى بولندا، في إطار مشروع النظام الدفاعي المشترك، والذي يشمل كذلك أنظمة مراقبة ثابتة لحماية حدودها من التهديدات الروسية المحتملة.
فضلا عن ذلك أطلقت دول “الناتو” مناورات عسكرية في مياه البلطيق بمشاركة 20 دولة هي الأولى من نوعها بعد انضمام السويد وفلندا رسميا إلى هذا التكتل العسكري الأكبر من نوعه في العالم، في ظل ارتفاع مستوى الهواجس الأوروبية من احتمال انتقال الحرب إلى أوروبا.
استعدادات روسية
على أن كلا الجانبين الغربي والروسي يؤكدان عدم رغبتهم في حرب بين روسيا و”الناتو” إلا أن الاستعدادات على الأرض تشير إلى عكس ما يقولونه.
ففي الجانب الروسي سعت موسكو إلى تعزيز قدرات جيشها استعدادا لصراع واسع النطاق مع حلف “الناتو” بدأت بزيادة حجم القوات المسلحة من 1.2 مليون إلى 1.5 مليون جندي وتوسيع منطقة لينينغراد العسكرية وشروعها بتدريبات لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، في المنطقة العسكرية الجنوبية القريبة من أوكرانيا.
يضاف إلى ذلك نشرها قوة جوية جديدة وجيش دفاع جوي يضم أفواجا من المقاتلات والقاذفات، بالإضافة إلى وحدات دفاع جوي وقوات هندسة لاسلكية، وشروعها بإنشاء لواء صاروخي مزود بمنظومة صواريخ باليستية من طراز إسكندر-إم، فضلا عن تنفيذها مناورات عسكرية بمشاركة سفن وطائرات حربية روسية في البحر الكاريبي.
ولم يكن بعيدا عن مشهد التوتر الحاصل تحريك موسكو احدى غواصتها النووية ” برفقة الفرقاطة الأدميرال جورشكوف” وناقلة نفط وقاطرة إنقاذ إلى السواحل الكوبية مؤخرا في خطوة تصعيدية ذكرت العالم بأجواء الحرب الباردة والتي بلغت ذروتها عام 1962 بما عرف بأزمة الصواريخ الكوبية.
انقسام أوروبي
رغم أن بعض دول الاتحاد الأوروبي تعمل على عدم الانزلاق في صراع عسكري مع روسي كون مشاركتها في الحرب جاءت استجابة لضغوط أمريكية، إلا أن هناك تيارا غالبا تشكل مؤخرا يذهب إلى رفع القيود الغربية على شن أوكرانيا ضربات في العمق الروسي، في ظل تحفظات ترى أن الإقدام على هذه الخطوة سيرفع حدة التوتر ويعرض أمن الدول الأوروبية للخطر الجسيم.
هذا المشهد أنتج حالة انقسام أوروبي تجلت بوضوح في التصريحات التي أطلقها مؤخرا رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان وأكدت أن “الناتو” والاتحاد الأوروبي يتجهان نحو صراع مباشر مع روسيا، مؤكدا أنه “لا يمكن لأحد أن يجبرنا على المشاركة في عمل عسكري خارج أراضي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ولا على تقديم المال لمثل هذا العمل”. معتبرا أن الصدام العسكري المحتمل بين روسيا والناتو سيكون أسوأ السيناريوهات المحتملة، وأن السلطات المجرية قد ترفض المشاركة في كل ما قد يجري خارج أراضيها.
الحال كذلك مع إيطاليا التي أكدت أنها لن ترسل أبدا أي قوات إلى أوكرانيا، وأن أي أسلحة تقدمها لكييف يجب ألا تستخدم لمهاجمة الأراضي الروسية.
وحتى الخطة التي أقرها الاتحاد الأوروبي مؤخرا بشأن توجيه أرباح الأموال الروسية المجمدة في أوروبا لتسليح أوكرانيا واجهت أيضا اعتراضات من بعض العواصم الأوروبية التي أبدت خشيتها من عواقب مثل هذا القرار والسابقة التي سيشكلها في الأسواق المالية، والتداعيات القانونية التي قد تنجم عنه.
بخلاف ذلك، أبدت دول أخرى تأييدا واسعا لفكرة السماح للجيش الأوكراني استخدام الأسلحة الغربية ضد مواقع في العمق الروسي، وفي المقدمة بريطانيا التي شرعت في وقت مبكر بتزويد كييف صواريخ من نوع “ستورم شادو” وصادقت على استخدامها في الأراضي الروسية، والحال كذلك مع فرنسا التي أعلن رئيسها ماكرون أن الوسيلة الوحيدة لإيقاف الزحف الروسي إلى الانتصار هو عبر استخدام الصواريخ الغربية لضرب العمق الروسي.
هذا الأمر دعا الرئيس بوتين إلى تحميل الدول الغربية مسؤولية منح الضوء الأخضر لأوكرانيا لاستهداف بلاده مباشرة بالصواريخ الغربية بعيدة المدى القادرة على ضرب العمق الروسي مثل صواريخ ستورم شادو البريطانية وتوروس الألمانية وأتاكمز الأمريكية، معتبرا ذلك “تصعيدا خطيرا” من جانب حلف “الناتو”.
سيناريوهات الحرب
على أن موسكو وصفت الدعوات الغربية بالمساح لأوكرانيا استخدام الصواريخ الغربية لاستهداف العمق الروسي “سوء تقدير خطير” فقد توعد الرئيس الروسي بوتين بتوفير موسكو أسلحة مماثلة لتلك التي يزود بها الغرب أوكرانيا لضرب العمق الروسي إلى دول ثالثة لمهاجمة أهداف غربية ومنشآت حساسة تابعة للدول التي تحارب روسيا ردا على أي هجمات غربية.
لكن هذا لن يكون كل شيء، فاحتمالات الرد العسكري الروسي المباشر في أراضي الدول الأوروبية صارت واردة، وقد تبدأ من دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا) خصوصا وأن هذه الدول تقود حاليا تحركات حلف “الناتو” للمواجهة والتصعيد مع روسيا.
يزيد من ذلك التواجد الروسي المكثف في منطقة البلطيق، ورغبة موسكو في الحد من الوجود العسكري المكثف للحلف الأطلسي في هذه المنطقة.
وبالنظر إلى المناطق التي اختارت فيها روسيا تنفيذ مناوراتها بالأسلحة النووية والتي تقع على حدود الدول الغربية، يصبح استخدام روسيا لهذا السلاح أو أسلحة عالية التفجير امرا واردا، في حال تعرضها لهجمات بصواريخ غربية حتى لو انطلقت من أوكرانيا.
وعلى أن المسؤولين الغربيين يرون أن روسيا لن تجرؤ على شن هجمات بأسلحة نووية تكتيكية في الأراضي الأوروبية، إلا أن تصريحات الرئيس بوتين كانت واضحة، وهي تبدو واقعية كونه لم يعد بإمكانه تجاهل الاستفزازات الغربية، كما لم يعد بإمكانه العودة إلى الوراء، إذ أن التراجع سيعني دخول الدولة الروسية في حالة اضطرابات واسعة قد تقود إلى الانهيار الكامل.
وما يثير القلق حاليا هو أن التهديدات الروسية السابقة تجاه دول حلف “الناتو” تبدو في طريقها للتنفيذ، ومؤشرات ذلك بدأت فعلا بالتصريحات التي أطلقها رئيس مجلس الأمن الروسي الذي أعلن أن بوتين سمح لأول مرة بإرسال أسلحتنا إلى مناطق هي في حالة حرب مع الدول التي تزود أوكرانيا بالسلاح”.
طبول الحرب
رغم التصريحات المطمئنة التي يطلقها المسؤولون في موسكو وواشنطن والعواصم الغربية بشأن الهجوم الروسي المحتمل على الدول الأوروبية، إلا ان هناك ما يدعو للقلق بالنظر إلى ما يدور على الأرض، فكل التحركات تشير إلى أن كل من موسكو والعواصم الأوروبية تسير باستعدادات متزامنة نحو مواجهة عسكرية مباشرة يصعب الجزم بأنها لن تتطور على حرب عالمية أو حتى حرب نووية.
والكثيرون في أوروبا يؤكدون اليوم أن بلدانهم في خطر وشيك، وأن طبول الحرب تقرع بقوة، وهو ما فسّر دعوة وزير الدفاع الألماني للجيش الألماني الاستعداد للحرب مع روسيا. في الدعوة التي اثارت قلقا عالميا كون أي حرب ستندلع بين روسيا وأي من الدول الأوروبية النووية لن تكون حرب دبابات بل حرب صواريخ نووية، خصوصا بعد التصريحات الأخيرة لبوتين التي اكد فيها أن من حق روسيا تصدير الأسلحة النووية إلى الهيئات الشرعية التي تتعرض لضغوط عسكرية على يد دول تصدر أسلحة لأوكرانيا وتستخدمها ضدنا.
وثمة قلق متزايد بشأن احتمالات استخدام موسكو السلاح النووي التكتيكي ضد أي من دول “الناتو” وهو امر أكده الرئيس بوتين الذي وجه رسالة شديدة الوضوح للغرب بقوله إن “الغرب مخطئ إذا افترض أن روسيا لن تقدم أبدا على استخدام الأسلحة النووية.
يضاف إلى ذلك تأكيدات بعض المسؤولين الروس من أن الرئيس بوتين ليس مستعداً لاستخدام السلاح النووي ضد الجيش الأوكراني، لكنه جاهز لاستخدامه ضد القوات الأجنبية الغربية التي تستهدف الأراضي الروسية.
وكان واضحا أن حديث الرئيس بوتين الأخير الموجه للدول الأوروبية عن استعداد روسيا للسلام والحوار، لم يكن سوى رسالة أخيرة من موسكو إلى القارة الأوروبية تدعوهم لتلافي الكارثة.
هذه الرسالة جاءت بعد مهاجمة الجيش الأوكراني محطات الرادار الروسي التي تمثل جزءا من نظام الإنذار الاستراتيجي للهجوم الصاروخي النووي، وهو أحد مكونات الدرع الصاروخي النووي الروسي الذي تدعو العقيدة النووية الروسية إلى الرد عليها بالسلاح النووي.
وما يثير القلق هو التقارير التي تشير إلى أن أهداف الغرب تجاه روسيا اليوم تركز على تدمير مفاصل الدرع النووي الروسي الذي تخشى منه واشنطن والعواصم الغربية على السواء، ومن غير المستبعد، في ظل الظروف الحالية التي تعيشها أوكرانيا وجيشها المتراجع في العديد من الجبهات، تنفيذها خصوصا بعد أن أكملت العواصم الغربية تدريب الطيارين الأوكران على طائرات الـ F16 التي يتوقع استخدامها من الجيش الأوكراني في الخريف المقبل.