حين تأسَّست جامعة الدول العربية عام 1945م، كان قيامها بمنزلة ولادة طبيعية لنظام إقليمي جديد يجسد خصوصية الروابط المشتركة التي تجمع بين الدول والشعوب العربية.
صحيح أن هذه الخطوة لم ترقَ إلى مستوى طموحات الشعوب العربية التي كانت تتطلع في ذلك الوقت إلى إقامة دولة موحدة تضم كل الناطقين بلغة الضاد، ما تسبب بتوجيه انتقادات حادة إلى هذا الكيان الوليد الذي رأى فيه البعض تكريساً لواقع التجزئة، وليس قفزة إلى الأمام على طريق الوحدة العربية المنشودة.
ومع ذلك، فقد اعتقد كثيرون في ذلك الوقت أنَّ وجود إطار مؤسسي للتشاور المنتظم بين الحكومات العربية يمكن أن يؤدي إلى تغليب روح التضامن ويساعد على توسيع نطاق المصالح العربية المشتركة وتغليبها على المصالح القطرية الضيقة.
ولأن الإعلان عن هذه الخطوة يواكب مع دخول المشروع الصهيوني مرحلة متقدمة على طريق تأسيس دولة لليهود في فلسطين، فقد كان من الطبيعي أن تشكل القضية الفلسطينية إحدى أهم ركائز العمل العربي المشترك في ذلك الوقت.
لذا، لم يكن غريباً أن تصدر جامعة الدول العربية في أولى مراحل تأسيسها ملحقاً خاصاً بفلسطين تلتزم فيه بمساعدة الشعب الفلسطيني على تحقيق استقلاله، أسوة بباقي الأقطار العربية التي كانت خاضعة للاحتلال الأجنبي، وأن تنعقد في العام التالي لتأسيسها أول قمة عربية لمناقشة القضية الفلسطينية (قمة أنشاص 1946م)، وأن تصوت الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة بالإجماع ضد مشروع قرار تقسيم فلسطين (1947م)، وأن تقرر دخول الحرب فور إقدام بن غوريون على إعلان قيام دولة «إسرائيل» من جانب واحد عام 1948م.
كانت حرب 1948م مجرد بداية لسلسلة طويلة من الحروب التي اندلعت في 1956 و1967 و1973م، إضافةً إلى حرب استنزاف طويلة استمرت خلال الفترة من 1968-1970م، ورغم أنَّ حرب 1973م كانت هي آخر الحروب التي خاضتها الجيوش العربية النظامية في مواجهة «إسرائيل»، فإنَّ الصراع المسلح بين «إسرائيل» والعالم العربي لم يتوقف قط، إنما راح يتواصل عبر حركات مقاومة مسلحة بدأت فلسطينية ثم راحت تتسع تدريجياً إلى أن أصبح تضم الآن، إضافة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، فصائل لبنانية ويمنية وعراقية.
وفي سياق هذا التحول، راح الصراع بين العالم العربي و»إسرائيل» يدور على جبهتين: جبهة رسمية تؤمن بإمكانية التوصل إلى تسوية سلمية متوازنة تحقق الحد الأدنى من المطالب العربية المشروعة، وجبهة شعبية ترى أن النضال المسلح هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الأرض العربية المحتلة وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره.
الجبهة الأولى بدأتها مصر الساداتية، منفردة في البداية، ثم راحت دائرتها تتسع تدريجياً إلى أن أصبحت تضم معظم الحكومات العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس. أما الثانية، فبدأتها فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم راحت تتسع تدريجياً إلى أن أصبحت تضم الآن فصائل مقاومة لبنانية ويمنية وعراقية.
ولأن النظام الرسمي العربي يبدو الآن كأنه قد تخلى نهائياً عن عقيدة الكفاح المسلح، وراح يلهث وراء سراب تسوية سلمية لم تحقق حتى الآن إنجازات تذكر، فقد ترك وراءه فراغاً تقدمت إيران لملئه، ما مكن الأخيرة من أن تصبح هي القائد الطبيعي المؤهل لقيادة محور المقاومة الذي بدأ يحقق إنجازات من شأنها إضعاف النظام العربي الرسمي وإحراجه في الوقت نفسه.
بوسع كل متتبع للمسار الذي سلكه النظام الرسمي العربي في سعيه الدؤوب للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع مع «إسرائيل» أن يلمس عمق المأزق الذي وصل إليه، فقد خلف وراءه حتى الآن معاهدات «سلام» تربط «إسرائيل» بكل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وعندما بدأ تطبيق «اتفاقية أوسلو» يواجه صعوبات على الأرض، قرر النظام الرسمي العربي القيام بمبادرة جديدة لتشجيع «إسرائيل» على المضي قدماً على طريق التسوية الشاملة، تبنتها قمة بيروت العربية المنعقدة عام 2002م، وفيها عبرت الدول العربية بالإجماع عن استعدادها لتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» إذا انسحبت من كل الأراضي العربية المحتلة، ووافقت على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، وأبدت استعدادها لتسوية مشكلة اللاجئين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948م.
ورغم أن «إسرائيل» ضربت عرض الحائط بهذه المبادرة، فإن عدداً لا يستهان به من الدول العربية قام بالقفز فوقها وقرر إبرام معاهدات سلام مع «إسرائيل» في إطار ما سمي «اتفاقيات أبراهام»، ما أدى إلى وضع النظام العربي الرسمي كله في مأزق، إذ أصبح هذا النظام عاجزاً تماماً عن الضغط على «إسرائيل» على تنفيذ المبادرة العربية المشتركة وعاجزاً في الوقت نفسه عن التراجع عن «العملية السياسية».
هنا يتجلى الفارق الكبير مع المسار الذي سلكه محور المقاومة في تصديه للمشروع الصهيوني بقوة السلاح، فقد استطاع حزب الله تحرير الجنوب اللبناني عام 2000م من دون قيد أو شرط، ولم تتمكن «إسرائيل» من تصفية المقاومة أو حتى من تحقيق انتصار حاسم في أي من المواجهات المسلحة الكثيرة التي خاضتها ضدها طوال العقود الثلاثة الماضية.
يصدق هذا على حزب الله في الحرب التي خاضها ضد «إسرائيل» عام 2006م، وعلى فصائل المقاومة الفلسطينية في مختلف المواجهات المسلحة التي خاضتها ضدها أعوام 2008 /2009 و2012 و2014 و2021 و2022م، إلى أن تمكنت حماس أخيراً من إذلال «الجيش» الإسرائيلي في معركة «طوفان الأقصى». وها هي «إسرائيل» تخوض اليوم حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 7 أشهر، لكنها تبدو عاجزة تماماً عن حسمها لمصلحتها، وها هو محور المقاومة يخوض الحرب ببسالة إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي يبدو النظام العربي الرسمي في أسوأ حالاته.
منذ معركة «طوفان الأقصى» وحتى الآن، عقد النظام الرسمي العربي اجتماعين على مستوى القمة، الأول في الرياض يوم 11/11 /2023م، أخذ شكل دورة طارئة مشتركة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، والآخر في المنامة يوم 16 /4 /2024م، وأخذ شكل دورة الانعقاد العادية لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة.
قمة الرياض أصدرت بياناً ختامياً مطولاً تضمن 31 قراراً، اكتفى معظمها بالشجب والإدانة وبمطالبة مجلس الأمن والمجتمع الدولي باتخاذ إجراءات معينة، لكنَّه بدا حريصاً في الوقت نفسه على تجنب إلزام الدول المشاركة فيه بممارسة أيّ نوع من الضغوط على «إسرائيل» والدول الداعمة لها في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على الشعب الفلسطيني.
البند الوحيد الذي حمل طابعاً إجرائياً وعملياً في هذا البيان تضمن دعوة إلى «كسر الحصار على غزة وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري، وإلى مشاركة المنظمات الدولية في هذه العملية، والتأكيد على ضرورة دخولها إلى قطاع غزة، والعمل على حماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها بشكل كامل».
ورغم أنَّ ظاهر هذا النص يوحي بأن الدول المجتمعة في جدة قررت القيام بعملية جريئة لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة وفرض إدخال قوافل المساعدات بكل الوسائل المتاحة من دون طلب إذن من أحد، بما في ذلك «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية، فإن ما جرى فعلاً على أرض الواقع يؤكد أن الدول العربية والإسلامية لم تقم بأي خطوة عملية لضمان وصول ما يكفي من المساعدات للشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع.
أما قمة المنامة، فقد أصدرت بياناً مختصراً اكتفى بإدانة وشجب استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وامتداده إلى رفح، وطالب بوقف إطلاق النار ومنع التهجير القسري ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب… وكلها عبارات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ليس هذا فقط، بل إنّ بعض الكلمات التي ألقيت في هذا المؤتمر تدل على أن الهوة التي تفصل بين بعض القادة العرب وشعوبهم أصبحت غير قابلة للجسر.
وعلى سبيل المثال، فقد ورد في كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يفترض أنه يمثل شعب فلسطين المحاصر الذي يتعرض لإبادة جماعية ما يفيد بأنه يلقي باللوم على حماس، ويدين عملية «طوفان الأقصى» برمتها، فقد اتهم حماس بأنها أعطت لـ»إسرائيل» ذريعة لارتكاب مجازر ضد الشعب الفلسطيني، وكأن «إسرائيل» بحاجة إلى ذرائع لممارسة أعمالها الإجرامية، وكأن الشعب الفلسطيني كان يعيش في أمن وأمان قبل 7 تشرين من العام الماضي.
كما ورد في كلمات بعض المسؤولين الآخرين نقد لما تقوم به أنصار الله في اليمن التي قامت بأعمال بطولية لدعم وإسناد صمود الشعب الفلسطيني.
يتضح مما سبق أن النظام الرسمي العربي اختار أن يقبع في مقاعد المتفرجين لما يقارب 8 أشهر، فضل خلالها أن يتابع من بعيد أعمال إبادة جماعية تقوم بها «إسرائيل»، بدعم كامل من الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية، وترك دولاً مثل جنوب أفريقيا تتحمل وحدها عبء رفع دعوى قضائية على «إسرائيل» في محكمة العدل الدولية، من دون أن تكلف نفسها حتى مجرد عناء التدخل متضامنة فيها، بل ترك دولاً أخرى بعيدة، مثل كولومبيا وتشيلي والبرازيل وغيرها من دول أميركا اللاتينية، تقوم بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل» احتجاجاً على المجازر التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني.
لقد كان بوسع النظام العربي الرسمي أن يفعل الكثير لمساندة شعب عربي تشن عليه حرب إبادة جماعية من جانب قوة تحتل أرضه منذ عشرات السنين، كأن يقوم مثلاً باتخاذ قرار جماعي يلزم الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» بطرد سفرائها منها وبسحب سفرائها في المقابل، وأيضاً بالوقف التام لكل أنواع التطبيع معها، وكان بمقدوره أن يطالب الدول العربية بإغلاق القواعد العسكرية الأميركية المقامة على أراضيها، وأن يقطع إمدادات النفط عن كل الدول التي تمدها بالسلاح مثلما فعلت في حرب 1973، فالنظام الرسمي العربي لا تعوزه القدرة على الفعل وممارسة التأثير، لكنه يفتقر إلى الإرادة التي تمكنه من القيام بذلك.
إذا لم يكن النظام الرسمي العربي قادراً على امتلاك إرادته في ظروف كهذه الظروف التي يمر بها الآن شعبنا العربي في فلسطين، فعلى الأرجح أنه لن يمتلك إرادته مطلقاً في أي ظروف أخرى. لذا، يمكن القول من دون أي تجاوز إن النظام العربي الرسمي يحتضر ويلفظ الآن أنفاسه الأخيرة.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة