خلف سجلاً تاريخياً ناصعاً وإرثاً أدبياً وفكرياً متقدماً: الأديب والمفكر القاسم بن علي الوزير النابغة في ثوريته وشعره، المهموم بقضايا أمته
كتب/ خليل المعلمي
ترجل عن صهوة الفكر والسياسة والإبداع المفكر والسياسي والأديب القاسم بن علي الوزير رئيس المجلس الأعلى لاتحاد القوى الشعبية اليمنية عن عمر ناهز الـ 86 عاماً بعد حياة حافلة بالعطاء في خدمة الوطن في المجالين السياسي والعلمي، فقد كان الفقيد أحد الشخصيات الفكرية والسياسية والأدبية التي أثرت الساحة الوطنية بالنضال والعطاء والإبداع، فكان أديباً ومفكراً أثرى المكتبة اليمنية بالعديد من المؤلفات والإصدارات المهمة، وإلقاء المحاضرات والمداخلات وكتابة المقالات عن قضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي كانت من أبرز القضايا الشاغلة له.
لقد خلف الفقيد سجلاً تاريخياً ناصعاً فقد كان نابغة في ثوريته ونضاله وشعره، وقد استقى منهجه الفكري -كما يرى الكثير من النقاد- من مدرسة المفكر الجزائري والعربي والإسلامي (مالك بن نبي)، وقد وصفه الكثيرون في أكثر من منتدى أدبي بأن أسلوبه في الأدب يطابق أسلوب شعر الشاعر السوري بدوي الجبل، لما له من ارتباط بهموم الأمة واستنهاضها للتحرر من التبعية والارتهان، فتكاملت شخصية الراحل الإنسانية والفكرية والأدبية بمرجعيات المفكر مالك بن نبي والأديب بدوي الجبل، وتكاملت بفكر شقيقه الأكبر إبراهيم في نهجه الفكري ومرجعيته الإسلامية والإنسانية التي تكونت منها مبادئ حزب “الشورويين التعاونيين” ولاحقا “اتحاد القوى الشعبية” وهي “الشورى في الأمر، العدل في المال، الخير في الأرض”، أي تجسيد رسالة الاستخلاف للإنسان في الأرض حتى لا يستبد النظام السياسي ولا يطغى.
لقد تجسد هذا المسار النضالي والسياسي والفكري والأدبي للراحل في ثقافته الفكرية والسياسية والأدبية، وجعل التحرر من التبعية والارتهان أهم نضالاته، وأعطى من حياته حيزاً كبيراً للقضية الفلسطينية حوتها كتبه وكتاباته الأدبية وقصائده الشعرية.
عاش الأديب والمفكر قاسم بن علي الوزير -رحمه الله- مهموماً بقضايا أمته العربية والإسلامية الكبيرة، مشغولاً بما شغل زعماء النهضة ورجال الفكر والتنوير من قبله: “الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وشكيب أرسلان، ومالك بن نبي، ومحمد علي لقمان”، وهو سؤال النهضة المؤرق عن سر تقدم الغرب وتأخر الشرق، وبالأخص العرب والمسلمين عن ركب الحضارة التي كانوا يومًا ما روادها وصانعي أنوارها.
لقد حمل الأخوان الراحلان القاسم ابن علي الوزير والمفكر إبراهيم، على عاتقيهما استنهاض شعبهما اليمني وأمتهما العربية والإسلامية من حالة التيه والعودة إلى المنهج القرآني والعمل وفق قانون السنن الكونية واستخلاف الإنسان في الأرض (الخير في الأرض، العدل في المال، الشورى في الأمر)، وهذه هي مرتكزات الدولة العادلة التي توحد شعبها وتحرره من التيه والارتهان للعالين في الأرض، وبدون هذا المنهج القرآني وقانون السنن ستظل تتجاذبها هيمنة العالين في الأرض من أنظمة استعمارية، وهو ما ورد في كتاب الراحل المفكر إبراهيم بن علي الوزير “على مشارف القرن الخامس عشر الهجري”، نعم لقد كانت رسالتهما الفكرية والسياسية تعتمد على ترسيخ قيم المنهج القرآني كثقافة وسلوك وممارسة في حياة الفرد والمجتمع ولتحرير الإنسان من التبعية والانحراف الفكري والفقهي، الذي مزق الأمة وشكل عائقاً أمام نهضتها.
لقد أدى الأخوان -رحمهما الله- الأمانة وأحسنا إيصال الرسالة لشعبهما وأمتهما من خلال الفكر الذي طرحاه وما قدما من محاضرات وكتابات وشعر، ولا ننسى أيضاً ما قدمه أخوهما عباس -رحمة الله- وأخوهم الدكتور زيد الباحث والمؤرخ العظيم ليتكامل دور هذه الأسرة الثوري والفكري والسياسي والمجتمعي.
لقد خلف الأديب والراحل القاسم بن علي الوزير مقالات وكتابات وقصائد عدة إلا أنه -للأسف- لم يكن مهتماً بتجميع ما يكتب، ولولا جهد أخويه الأستاذين الجليلين: إبراهيم وزيد في تجميع كتاباته، لكانت قد ضاعت وطواها النسيان، ففي العام 2011م أصدر ديوان شعر بعنوان «في ثلاثية الشوق والحزن والإشراق»، قدم له صديقه الدكتور عبدالعزيز المقالح- رحمه الله.
ومن أهم ما كتبه الشاعر الراحل الدكتور عبدالعزيز المقالح في تقديمه لهذا الديوان ما يلي: ينتمي الشاعر المفكر قاسم بن علي الوزير إلى أسرة عريقة من العلماء والشعراء والشهداء، ويضم في ديوانه الصادر أخيراً عن (دار المناهل 2011م) ثلاث مجموعات شعرية هي: “الشوق ياصنعاء” و”أزهار الأحزان” و”لم تشرق الشمس بعد”.
وكان القاسم قد بدأ كتابة قصائده في أوائل خمسينيات القرن الماضي في السجن، وهو فتى في الرابعة عشرة من العمر، بعد أن اقتيد كل أفراد عائلته من الذكور شيوخاً وكهولاً وأطفالاً إلى السجن في أعقاب فشل الثورة الدستورية 1948م، وقد قُطِعتْ رؤوس بعض أفراد هذه العائلة وفي مقدمتهم والد الشاعر رئيس مجلس وزراء الثورة علي بن عبدالله الوزير، أما من نجا من أفراد العائلة فلم يسلم من عذاب السجن وترويعاته، حدث ذلك في تراجيديا بالغة المأساوية والقسوة قلّما تحدث إلاَّ نادراً وفي بعض العصور المظلمة، وفي السجن تبلورت موهبة الفتى الذي صار شاباً يقرأ كل ما يتسلل إلى السجن من كتب قديمة أو حديثة، وكانت لجبران خليل جبران، كما لمصطفى صادق الرافعي، مكانة خاصة لدى الكثير من السجناء الذين وجدوا في أدب الأول أبعاد ثورة رومانسية تعكس أشجانهم وحنينهم إلى التغيير ومقاومة تكسير الأجنحة، كما وجدوا في أدب الثاني جنوحاً باذخاً نحو الحلم والخيال.
وأزعم- والكلام للدكتور المقالح- أنني اقتربت بعد تلك السنوات الفاجعة- من تجربة سجناء 1948م، والتقيت بعضهم وأفدت من معارفهم العلمية والأدبية، وجمعتني بالشاعر قاسم الوزير صداقة عميقة قادت إلى لقاءات لا حصر لها بعد أن خرج من السجن، وتولى شؤون العائلة في صنعاء نيابة عمن تبقى من أشقائه الذين كانت قد استقبلَتهمْ المنافي، وفي فترة قصيرة استطاع تكوين مكتبة صغيرة لكنها نوعية وعامرة بالأهم من عيون الأدب القديم والحديث، كانت منهلاً سائغاً لعشاق الأدب وشُداته، ولا يمكن استيعاب تجربة هذا الشاعر المفكر دون أن يلم القارئ بتلك الملامح من حياته العاصفة التي جعلت منه شاعراً، وفتحت أمام مخيلته عوالم الإبداع، ودفعت به إلى الإنصات لصوت الشعر وهو يتموج في كل ما يحيط به من معالم الحياة وصور الناس والأشياء. ومن المهم أن أشير هنا إلى أن معظم ما كان يكتبه من شعر إن لم يكن كله يبقى مطوياً في صدره، أو في الأوراق، في انتظار الزمن الذي يسمح بالنشر، وهي مشكلة عانى منها كثير من مجايليه.
وعن المجموعات الشعرية للديوان، تابع الدكتور المقالح: ولا ريب أن المجموعات الشعرية الثلاث التي يضمها الديوان تشكل إنجازاً شعرياً جديراً بالاحتفاء، وبأن نستقبلها بفرح غامر بعد سنوات الانتظار الطويل الذي كاد يتلاشى بعد أن تحول اهتمام صاحبها إلى الكتابات الفكرية؛ يمنحها وقته، ويسعى إلى توسيع آفاقها لتتلاءم مع الواقع العربي والإنساني الراهن، وفي وقت يبدو فيه الشعر وقد تضاءل دوره حتى وهو يخوض -دون هوادة- معركته مع القضايا السياسية والاجتماعية التي تشابكت وتعقّدت وصارت واقعاً مفزعاً ومثيراً للقلق بعد عقود من الأمل والثورات والمحاولات الدؤوبة في اختراق جدار التخلف السميك لاختصار الطريق والعبور السريع نحو المستقبل بأقل قدر من التضحيات والخسائر، ومع ذلك يبقى للشعر حضوره الفاعل واقتداره المكين على فتح نوافذ الروح نحو آفاق أبعد مما تستطيع البندقية أن تفعله أو تراهن عليه.
ولم يكن الأديب والمفكر الراحل القاسم بن علي الوزير بعيداً عما تعيشه اليمن منذ العام 2015م من عدوان غاشم، تحالفت عليه الدول العظمى مع صهاينة العرب على الرغم من تقدمه في السن ولكنه وقف ضد هذه الحرب، ففي مقال له بعنوان «إيقاف الحرب وتحقيق السلام ليسا قضيةً واحدة»، دعا إلى إرساء السلام في اليمن وفق رؤية عادلة لا يختلف عليها اثنان، كان مما قال فيها: إنّ الخطة المثلى والأدعى إلى النجاح والتوفيق هو أن يجتمع لذلك كل الساعين لإقامة العدل، وكل العاملين لتحقيق السلام، أي كل من يرون الرأي ذاته ودون استثناء، أو إقصاء لأيٍّ كان فرداً، أو حزباً، أو هيئة، أو فعالية، فإذا اجتمعوا تدارسوا الأمر بكل جوانبه وخلصوا إلى “مشروع” متفق عليه بينهم تتكوّن على أساسه “كتلة” تنهض بالأمر دون تجاوز لفئة أو تحيّز لجهة.
أما في مجال الفكر، فله كتاب «حرث في حقول المعرفة»، ويضعه هذا الكتاب في مصاف المفكرين العرب المستنيرين الذين يقتبس من أنوارهم، ويهتدى بأفكارهم وقد قام بتقديمه شقيقه ورفيق دربه في الحياة التي عاشاها سوياً بحلوها ومرها الأستاذ زيد الوزير.
وقد أحسن الأستاذ زيد صنعاً حين قام بتجميع محاضرات وكتابات الأستاذ قاسم، وقبله كذلك قام الأستاذ إبراهيم الوزير بتجميع القصائد المتناثرة للأستاذ قاسم في ديوان، ولولا ما قام به الأخوان الأستاذان: إبراهيم وزيد تجاه إرث أخيهما الفكري، لتوارى هذه التراث بالحجاب، ولحالت الظروف دون استجلاء شخصية ذات أثر مهم وفكر مستنير.