الاعتراف الأوروبي بفلسطين.. هل يحول إسرائيل إلى كيان منبوذ دولياً ؟

هستيريا الانتقام قد تُغرق حكومة الكيان بالعزلة:

 

تغيران تاريخيان مهمان في ملف القضية الفلسطينية مثلا انتكاسة سياسية ودبلوماسية كبيرة لحكومة الكيان الاسرائيلي بعدما قدما الأدلة القاطعة على أن إسرائيل في طريقها إلى التحول لدولة منبوذة على المستوى الدولي، الأول إعلان 3 دول أوروبية الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة والثاني اعلان المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولة تقديمه طلبا إلى المحكمة بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه بتهم ارتكاب جرائم حرب.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

على الرغم من وجود 144 بلدا في العالم تعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة على قاعدة «حل الدولتين» إلا أن إعلان كل من إسبانيا والنرويج وإيرلندا الاعتراف رسميا بالدولة الفلسطينية المستقلة كان قرارا تاريخيا حظي بترحيب دولي واسع النطاق في مقابل غضب إسرائيلي هستيري.
ذلك أن قرار الدول الثلاث التي تعتبر من الدول الأكثر تأثيرا في الاتحاد الأوروبي، انطوى على اعتراف كامل بأن فلسطين دولة ذات سيادة واقعة تحت الاحتلال كما انطوى على دعوة بإنهاء الاحتلال ورفض سياسة الاستعمار الاستيطاني فضلا عما انطوى عليه من ابعاد قانونية داعمة للقضايا المنظورة أمام محكمة الجنايات الدولية بارتكاب جيش الاحتلال الاسرائيلي جرائم إبادة جماعية في عدوانه على قطاع غزة.
ورغم التحذيرات والضغوط التي مارستها حكومة الكيان من اجل ثني هذه الدول من الاعتراف بالدولة الفلسطينية حسمت العواصم الأوروبية الثلاث قرارها التاريخي معلنة رفع العلم الفلسطيني في أوسلو ومدريد وفي مبنى البرلمان « لينسر هاوس بايرلندا، مجرد دخول قرار ا لاعتراف بالدولة الفلسطينية حيز التنفيذ يوم 28 مايو الجاري.
وغداة إعلان الدول الثلاث الاعتراف رسميا بالدولة الفلسطينية شرعت حكومة الكيان بإجراءات انتقامية عقابية، بتطبيق القرار الصادر عن الكنيست الإسرائيلي في مارس 2023، القاضي بإلغاء ما سمي «قانون فك الارتباط» في قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية المحتلة، في خطوة فتحت الطريق أمام آلاف المستوطنين للعودة إلى المستوطنات التي تم اجلاؤهم منها، بما فيها ثلاث مستوطنات شمالي الضفة الغربية كانت حكومة الكيان فككتها في وقت سابقا وأخضعتها للسيطرة العسكرية دون السماح للفلسطينيين بالعودة.
والقانون المشار اليها تضمن خطة أحادية نفذتها حكومة الاحتلال عام 2005 وتم بموجبها إجلاء آلاف المستوطنين من جميع مستوطنات قطاع غزة، ومن ثلاث مستوطنات شمالي الضفة الغربية، وتحولت بموجبه المستوطنات شمالي الضفة إلى مناطق عسكرية مغلقة، غير أن القانون خضع للتعديل العام الماضي بما سمح للمستوطنين العودة وإنشاء بؤر استيطانية جديدة.
لم تقف الإجراءات الإسرائيلية عند هذا الحد بل ذهبت إلى التصعيد أكثر بإعلانها إلغاء القانون كليا، في خطوة بدت متوافقة مع التوجهات الإرهابية التي أعلنتها حكومة الاحتلال بتدمير قطاع غزة على رؤوس سكانية وتهجيرهم، وأنها حكم السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإخضاع الأراضي الفلسطينية للاحتلال من جديد بما فها الضفة الغربية التي تعتزم دولة الاحتلال تحويلها إلى محيط استيطاني ضخم وتفكيك أوصالها الشمالية لمناطق معزولة لمنع أي مساع لإقامة دولة فلسطينية وأكثر من ذلك فتح الطريق أمام المستوطنين لبناء بؤر استيطانية غير قانونية وفقا لقواعد القانون الدولي.
مخاوف إسرائيلية
لم يكن قرار حكومة الكيان إلغاء قانون فك الارتباط هو رد الفعل الانتقامي الوحيد، إذ أعلنت بوضوح عزمها إنهاء حكم السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعلان حرب اقتصادية شاملة عليها من خلال فرض عقوبات اقتصادية ومالية على السلطة الوطنية ووقف تحويل أموال الضرائب اليها فضلا عن إلغائها تصاريح كبار الشخصيات لمسؤولي السلطة الفلسطينية بشكل دائم وفرض عقوبات مالية إضافية عليهم».
والأدهى من ذلك أن حكومة اليمين المتطرف وضعت مستقبل نتنياهو رهنا بأنهاء السطلة الفلسطينية وضرب البنية التحتية للسلطة الفلسطينية وحلها ومحاكمة قادتها، في عمل إرهابي صرف تجاوز طابع التهديد إلى الفعل بعد إعلان وسائل إعلام إسرائيلية أن حكومة الكيان أرسلت فعلا رسائل لكل من فرنسا وبريطانيا بشأن إجراءاتها المنتظرة بشأن ما اعتبرته قرارات صعبة بحق السلطة الوطنية الفلسطينية وهستيريا القرارات الصهيونية لم تكن بعيدة عن التحولات التي شهدها العالم لمصلحة القضية الفلسطينية بعد التورط الإسرائيلي بمجازر الحرب المرتكبة في قطاع غزة، ولا سيما قرار الدول الأوروبية الثلاث الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، والذي جاء في إطار زخم عالمي مؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية وحقه في أن يكون له دولة مستقلة على قاعدة حل الدولتين.
زاد من ذلك أن القرار الأوروبي جاء بعد أيام قليلة من إعلان المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه على خلفية تورطهم في جرائم حرب في قطاع غزة.
والعنصر الهام في الموقف الأوروبي أنه جاء ليكمل الحلقات المفقودة في الملف الذي تقوده حاليا المحكمة الجنائية الدولية، خصوصا وأن «نظام روما الأساسي» الذي تعمل المحكمة تحت مظلته ادخل «جريمة العدوان» في نطاق اختصاصات المحكمة، وهو النص الذي لم يطبق من قبل تجاه ما ترتكبه حكومة الاحتلال من مجازر بحق الشعب الفلسطيني كونه يحدد « جريمة العدوان» بشن دولة هجوماً مسلحا واسع النطاق على دولة أخرى ذات سيادة ومعترف بها دوليا.
هذا الأمر حسم بشكل نهائي بعد أن حصل مدعون من المحكمة الجنائية على شهادات أجروها سابقا مع عاملين في أكبر مستشفيين في غزة، فتحت الطريق أمام المدعي العام للمطالبة بإصدار مذكرات اعتقال للمطلوبين في حال سافر أحدهم إلى إحدى الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي وعددها يناهز الـ 124 دولة بينها جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ستكون ملزمة باعتقالهم وتسليمهم إلى المحكمة مجرد إرسال أمر الاعتقال إلى سلطات الدولة المعنية.
هذا الأمر أثار مخاوف واسعة في أوساط حكومة الاحتلال ورئيس وزرائها المطلوب دوليا بنيامين نتنياهو بعد أن بدت عاجزة تماما عن مواجهة التوجهات الأوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة واحتمالية أصار المحكمة الجنائية مذكرات اعتقال بتهم التورط في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
والأهم من ذلك أن خيارات سفر أي مسؤول إسرائيلي إلى الدول المصادقة على نظام روما الأساسي، أصبح ضيقة للغاية بعد إعلان العديد من الدول الأوروبية احترامها لسلطة المحكمة الجنائية واختصاصاتها.
وهذا الأمر أعلنه بوضوح مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي أكد أن المحكمة الجنائية مؤسسة دولية مستقلة والدول المصدقة على نظامها ملزمة بتنفيذ قراراتها، وتأكيده أن قرارات المحكمة ستكون بالنسبة للدول الموقعة على ميثاقها ستكون ملزمة بتنفيذ قراراتها.
مكاسب فلسطينية
حالة الاستنفار التي أعلنتها حكومة الكيان غداة قرار الدول الأوروبية الثلاث الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، كشف مدى شعورها بالقلق من التحولات الجديدة التي منحت القضية الفلسطينية زخما دوليا قد يمكنها من مواجهة الصلف الإسرائيلي في المسرح الدولي على طريق نيل الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية والقانونية المشروعة.
السبب في ذلك أن الخطوة التي أعلنتها كل من النرويج وإيرلندا وإسبانيا ستمنح الدولة الفلسطينية فرصا جديدة لزيادة التمثيل الدبلوماسي وملء فجوة الأنشطة الدبلوماسية الفلسطينية في هذه الدول التي تُعد من أكثر الدول المؤثرة على سياسات الاتحاد الأوروبي،
ومن جانب آخر ستعزز من مشروعية قيام الدولة الفلسطينية على الصعيد الدولي كونها حملت إقرارا بأن كل الشروط القانونية متوفرة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو تحول هام من شأنه أن يساعد في التأثير على الرأي العام الأوروبي وحمله على المطالبة بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية تتفق مع مقتضيات القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
أكثر من ذلك أن إعلان الدول الثلاث الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، سيزيد من حجم الإجماع الدولي لحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهو ما سيقود في المستقبل إلى إلزام مجلس الأمن بإصدار قرارات تمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة بما سيقود إلى قرارات أخرى تلزم إسرائيل بإنهاء الاحتلال للمناطق التي احتلها عام 1967 والعمل على الانسحاب منها وإنهاء حربها الوحشية في قطاع غزة بصورة فورية.
ورغم أن بعض دول الاتحاد الأوروبي الـ 11 التي اعترفت بفلسطين سابقا لم تقم بتفعيل قرارها الاعتراف بالدولة الفلسطينية بفتح المجال للتمثيل الدبلوماسي الفلسطيني الكامل، إلا أن التوقعات تُرجح أن يكون الموقف مختلفا مع إسبانيا والنرويج وإيرلندا استنادا إلى الحيثيات التي تضمنها البيان المشترك لهذه الدول.
‏والتضييق الذي ستواجهه حكومة الكيان الإسرائيلي بفعل اعتراف ا لدول الأوروبية الثلاث بفلسطين دولة مستقلة لن يكون الوحيد، ففي حال صدور مذكرة الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق المسؤولين الإسرائيليين، فإن الدول الأوروبية ستنصاع حتما لقرارات المحكمة باعتقال أي مسؤول إسرائيلي من بين المطلوبين حال دخل أراضيها، ما سيزيد من عزلة دولة الكيان على المستوى الدولي، في حين أن مجريات النظر في القضية ستنعكس حتما على عمليات تصدير الأسلحة إلى إسرائيل وستحول أي أنشطة من هذا النوع إلى جريمة قانونية دولية وفقا للقواعد القانونية المتبعة في المحكمة الجنائية.
عواقب وخيمة
ثمة موقف دولي يتشكل يشير إلى أن الخطوات التصعيدية التي اتخذتها حكومة الكيان لم تكن سوى عمل انتقامي من دولة احتلال وحكومة حرب متطرفة صارت بحكم سياساتها الإرهابية وجرائمها في قطاع غزة تشعر أنها منبوذة على المستوى الدولي في ظل تحديها العلني لقرارات الشرعية الدولية وإفصاحها عن مساعيها إبقاء فلسطين دولة خاضعة للاحتلال بكل ما يحمله من ارهاب وجرائم حرب وتقويض للأمن الدولي.
لكن المرجح أن الصلف الإسرائيلي سيوقع حكومة الكيان في مأزق قانوني دولي، فالإجراءات الانتقامية بالقضاء على حكم السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة المستوطنات ستعني بالنسبة لدول العام تقويضا كاملا لحل الدولتين المعترف به دوليا، وتحديا صارخا لقرار مجلس الأمن 2334 الذي يحث على تجميد الأنشطة الاستيطانية.
وأكثر من ذلك رفض إسرائيل تنفيذ التزاماتها تجاه القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، ولائحة لاهاي لعام 1907 وانتهاكا لاتفاق أوسلو الموقع قبل 30 عاما والذي يلزم حكومة الكيان باتخاذ كافة الإجراءات الضامنة لحماية حقوق المدنيين في الضفة الغربية.
وما فعلته حكومة الكيان مؤخرا تجاه سياساتها الاستيطانية لم يكن جديدا، فمشروع الاستيطان ظل قائما حتى في ظل عدم تنفيذها قرار الكنيست الصادر العام الماضي، إذ أنها عززت سياستها الاستيطانية قبل سنوات طويلة ببنائها جدار الفصل العنصري الذي لبي طموحات اليمين المتطرف بإعادة تشكيل الخارطة الجغرافية لأراضي الضفة الغربية التي يسمونها «يهودا والسامرة».
الفارق أن القرار الجديد سيدفع سلطات الاحتلال رسميا إلى تنبي مشاريع لتأهيل البنية التحتية للمستوطنات ومصادرة المزيد من الأراضي وتفكيك الخارطة الجغرافية لمدن الضفة الغربية وهدم البيوت وتهجير السكان وتدفق المزيد من المستوطنين بكل ما يحملونه من عنف وإرهاب كان في الشهور الماضية موضع إدانات عالمية.
وثمة عواقب وخيمة على الطريق، فالردود الإسرائيلية الانتقامية بحق السلطة الوطنية الفلسطينية ستعمل بلا شك إلى إشعال الأوضاع في الضفة بما يعنيه ذلك من تقويض لأمن المنطقة ككل، في ظل احتمالية اتخاذ السطلة الوطنية خطوات مضادة على شاكلة تحويل السلطة إلى دولة استنادا على الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة، فضلا عن سحب الاعتراف بدولة إسرائيل.

قد يعجبك ايضا