ملائكة الرحمة وسباق مع الزمن: معركة تقهر ظلال الإمكانيات المحدودة

رحلة الصمود في وجه المرض أطفال اللوكيميا: بين قصص النجاة وصدى النداء المفقود

 

 

ويبقى الأمل: قصص الألم والتحدي في مواجهة اللوكيميا، بطولات أبوية تتحدى الحاجة والنقص

في زحمة الظروف الصعبة التي تواجهها اليمن، تبرز قصص إنسانية وكفاح في وحدة علاج لوكيميا الأطفال في صنعاء، حيث يتحدى الأطفال وأسرهم المرض والصعاب بشجاعة وأمل.
وتظل الإرادة القوية لآباء وأمهات مثل أم “آلاء” وأبو “تامر” وأطفال مثل “نور” و”يحيى”، مصدر إلهام، وهم يحلمون بمستقبل أفضل ويسعون لتحقيقه بكل ما أوتوا من قوة.
ويتجلى الأمل في قصص النجاح والتعافي، وفي عودة الأطفال الى حياتهم الطبيعية، في انتظار مستقبل واحد وأحلامهم تساهم في نماء المجتمع بروح تعكس قوة العزيمة والإرادة للتغلب على أقسى التحديات.
تفاصيل نرصدها لكم، كما رأيناها واقعا في مواضع المعاناة، من خلال جولة استطلاعية قامت بها الصحيفة في جنبات أقسام وحدة علاج أطفال اللوكيميا بمستشفى الكويت الجامعي في صنعاء، فإلى التفاصيل:
الثورة /يحيى الربيعي

تعمل الدكتورة سارة المعبري، أخصائية أولى في طب الأطفال، في المركز.. استقبلتنا في غرفة المعاينة، وهي- أيضا- من رافقتنا في جولتنا، تقول الدكتورة سارة: هنا في غرفة الاستقبال يتواجد ثلاثة أطباء. كل طبيب يستقبل حتى 20 حالة يوميًا كحد أقصى. يتم فحص الأطفال، سواء كانت حالات جديدة أو متابعة، وإعطاء العلاج الكيماوي. في البداية، يُعطى الطفل العلاجات الكيماوية وفقًا لنتائج الفحوصات والخطة العلاجية المدونة في ملفه الطبي، ويضم المركز غرفة لفحص النخاع وإعطاء الجرعات الكيماوية للظهر، بالإضافة إلى صيدلية صغيرة.
هناك أيضًا -تقول الدكتورة سارة- غرفة لأرشيف ملفات المرضى وغرفة لتحضير العلاج الكيماوي، يديرها كادر متخصص ومتميز. لدينا فريق التمريض الذي يعمل في غرفة إعطاء الجرع الكيماوية وسحب النخاع. الصالة صغيرة ولا تكفي لاستيعاب العدد الكبير من الحالات الذي يتجاوز في بعض الأيام 50 حالة، وتفتقر للمعدات الأساسية. كل ما تحتوي عليه الوحدة من التجهيزات هو: 5 أسرة؛ كل سرير يرقد عليه ما بين 2-3 مرضى في حالات الذروة الاضطرارية، وحوالي 10 كراسي لإعطاء العلاج الكيماوي، ويضطر البعض إلى أخذ الجرعة على كراسي الانتظار في حديقة الوحدة.
يوجد قسمان للرقود؛ الأول لإعطاء الجرع الكيماوية وغالبًا ما يكون مزدحمًا، مما يضطرنا لجدولة الحالات وتأخير مواعيد الجرع من يومين إلى أسبوع. القسم الثاني لرقود الحالات الحرجة مثل ارتفاع الخلايا المناعية أو النزيف.
وعن أوجه العجز في الوحدة تضيف الدكتورة: تعاني الوحدة من نقص في الموارد والتجهيزات الطبية والأدوية. وفي رأس قائمة الاحتياجات تقبع غرف العناية والعزل، كضرورة ملحة لتحسين نسبة التعافي ومخرجات الوحدة. مما يضطرنا لنقلهم، إلى مستشفيات أخرى. وذلك يتسبب، بالإضافة إلى ما ينتج عنه من مضاعفات لحالة المريض بسبب ظروف المستشفى المضيف، في مضاعفة معاناة أهالي المرضى فيما يتعلق بتحمل جزء من التكاليف اللازمة، والوضع يتفاقم بسبب الحصار الذي يحول دون وصول الإمدادات الطبية، ومعه تتناقص الإمدادات إلى حد تنعدم فيه الأدوية وتتوقف معها الخدمات الأساسية. ناهيك عن اضطرار الأهالي إلى تحمل أعباء مالية ثقيلة لتأمين احتياجات مرضاهم من الدم و(مشتقاته).

تحول في حياتي المهنية
الدكتورة سارة، تواصل حديثها معنا: متواجدة هنا منذ العام 2018م، تأثرت بشدة بحالات أطفال اللوكيميا ووجدت أن كل مناوبة تمثل تحديًا نفسيًا لي، خاصةً في الأيام التي يفقد فيها مريض حياته، في البداية، كنت أعتقد أنني لن أتمكن من العمل في مجال الأورام، لكن في عام 2019م، بدأت العمل في الوحدة لتغطية زميلاتي خلال فترة الامتحانات. وخلال تلك الفترة، تعلقت بالأطفال وشعرت بأنهم أصبحوا جزءًا من حياتي. العبارات مثل ‘نحن نحبك يا دكتورة سارة’ كانت دافعًا قويًا لي لأكون أول من يصل إلى العيادة كل صباح.
وتضيف: في بعض الأحيان، كانت معنوياتي تتأثر بشدة، خاصة عند سماع خبر وفاة أحد الأطفال الذين عالجتهم، كنت ابكي، وقررت مرارًا ترك العمل في المركز، لكن كلما اتخذت هذا القرار، كانت رسالة من طفل تصلني تقول: ‘أنا أحبك يا دكتورة’، فأعود لمواصلة العمل معهم. تعلقت بالعديد من الأطفال الذين تحسنت حالتهم وعادوا لممارسة حياتهم الطبيعية، ولكن للأسف، فقدت بعضهم وأشعر بالحزن العميق على فقدانهم”.

رحلة تكاليف
يتضاعف الأسى ويزيد الحياة قسوة، مع أولئك القادمون من مناطق مختلفة خارج صنعاء، حيث يجابهون صعوبات جمّة في توفير تكاليف المأوى والمعيشة في صنعاء، إضافة إلى أعباء مالية أخرى لمن تبقى من عائلاتهم في القرى، دون نسيان جبال النفقات العلاجية والفحوصات الغالية الثمن، التي تتسلل إلى أحلامهم كالكوابيس، فهي تصل، كما يحكي أبو الطفل صادق أنه أنفق حتى اللحظة قرابة 3.5 ملايين ريال. طبعا، هذا بالإضافة إلى ما يتم صرفه من العلاجات المدعومة والمقدمة من الجانب الحكومي ممثلاً بوزارة الصحة عبر صندوق مكافحة السرطان ومركز علاج أورام السرطان وفاعلي الخير مجانا، والذي تصل تكلفته للمريض الواحدة ما بين 300-400 ألف ريال شهريا.
تتناقص كميات الدواء المدعومة والمتواجدة في الصيدلية، وقد تتوقف عجلة التشغيل في المختبر الوحيد، في الملجأ الوحيد لأطفال اللوكيميا، يضاف إلى ذلك الضيق الشديد في مقر الوحدة، الذي لا يكاد يتسع سوى لتلبية ثلث احتياجات عدد المترددين على أقسام الوحدة البالغ 412 حالة.
بين جدران وحدة علاج لوكيميا الأطفال في صنعاء، نصادف أم “آلاء”، إحدى سيدات حبور ظليمة عمران، التي بادرت بالتحدث إلينا حول رحلتها الطويلة من القرية حاملة ابنتها نحو الأمل. لم تنتظر أم “آلاء”، أسئلتنا، ومضت تروي تلك اللحظات المليئة بالألم والأمل. وبعد تشخيص أولي بفقر الدم وتكرار للوعكة، أُحيلت الطفلة “آلاء” إلى الوحدة، هنا، في صنعاء لمواصلة معركتها مع علاج المرض.
داخل الوحدة، أشارت الاختبارات (الفحوصات) إلى أنها معركة مع لوكيميا الأطفال، حينها بدأت رحلتها العلاج الكيميائي والجرعات المضادة للفطريات. بداية الرحلة كانت مكلفة، مستلزمه إبرتين بـ 80 ألف ريال.. تقول أم آلاء: مكثنا لمدة عشرة أيام يُجرى لها تغيير الدم والصفائح حتى بدأنا نرى النور في نهاية النفق. الزيارات المتكررة كل عشرة أيام كانت تحمل معها ثقل الديون المتراكمة، إذ كانت تتطلب الاستدانة بمبلغ يتراوح بين 100-150 ألف ريال، فالموارد المحدودة للوحدة تضطرنا أحياناً للانتظار أياماً إضافية، نظراً لقلة غرف العلاج الكيميائي، مما يزيد من المصاريف.

الألم والأمل
وفي مسيرة سكة الأمل، نلتقي بقصص نجاح أولئك الذين يحتفون بنهاية دوراتهم العلاجية، مثل (سلمان الوصابي، محمد عبدالله) متطلعين نحو فصول جديدة في كتاب الحياة، وبينهم (يحيى الشامي البالغ من العمر 20 سنة وهو من فضل أن يعود ليمنح العون الطوعي لغيره من المرضى، ومن دخلن معترك الحياة بالزواج والإنجاب، وآخرون ذهبوا لمواصلة تحصيلهم العلمي، الكل انطلق في مسارات الحياة يرسمون آمالا بألوان الحياة.
“نور”، الفتاة النابضة بروح الربيع، تعزف سيمفونية الشفاء، قائلة بحماسٍ لا تُخطئه الأذان: “زادت فرحتي عند إنهاء العلاج، متطلعة إلى أن أعود لألهو كما في الأيام الماضية، غير أنني وجدت في الوحدة عالمي الصغير، حيث اصطفى لي القدر أصدقاء يشاطروني اللعب، ويقاسمونني صناعة أساور الأمل، وأتمنى أن أصير طبيبة عند الكبر، لأمدّ يد الشفاء لجميع الأطفال.”
تترك الوحدة في نفس الزائر بصمة الأمل، عبر مشهد تلقي الصغار للعلاج، حيث يؤكد ذوو المرضى على أنهم ينالون هناك ما يُتاح من رعاية، وأكثر. ويكتمل المشهد بالإنسانية والحنان الذي يستقبل به الطاقم الطبي المرضى وأهاليهم، مُقدمين لهم الطمأنينة والدعم، ولا يكتفون بذلك بل يمتدون بمتابعتهم هاتفياً للتأكد من استمرارية العلاج بعد العودة إلى البيوت.
كل خطوة داخل هذه الوحدة تنقلك عبر روايات الألم والأمل، فبينما يصدح في مكان صوت قصة ألم، يتردد في الأفق صدى أمل يتجدد، مُعانِقا أحلام الشفاء الذي يتحقق بفضل العناية الإلهية والدعم غير المحدود من القلوب الرحيمة في المجتمع.
من الضفة الأخرى لهذه المعاناة، حيث يُعد صف المُتألمين بأكثر من420 حالة، يتدفقون على الوحدة من مختلف أرجاء اليمن، نكتشف أولئك الآباء والأمهات المثقلين بآلام الفقد والخسارة، منهم من يبحث عن ملاذ أو يد العون تُمد لهم. بعضهم، غارق في غمار الانتظار، يجد نفسه مضطراً للعودة أدراجه، حاملاً طيف الأمل المنهار والعودة إلى واقعهم المرير المصحوب بقدر مظلم بالفقد.

كفاح فريد
وفي عمق الألم، توجد قصة كفاح فريدة، أصرينا على “أم رضا” إلا أن تحكي تفاصيلها.. إنها رحلتها في علاج أبنتها من أولى إشارات المرض، حين برزت على جسدها علامات الالتهاب، مما قاد إلى تشخيصها على يد عدة أطباء بأنها تعاني من التهابات المفاصل. غير أن استعمال علاجات الروماتيزم جلب معه تدهورًا في حالتها بظهور بقع غريبة على بشرتها. انتقلنا بقصتنا إلى أخصائي أطفال في تعز، والذي رأى ضرورة فحص النخاع. خطوة قابلها الأب بالرفض مخافة إعاقة محتملة تصاحبها ظروف مالية صعبة، لم يمض يوم حتى فقدت “رضا” القدرة على المشي، انحنت تحت ثقل المرض، وبدأ الدم يتسرب من بداية لسانها.. الأعراض دفعتني للعودة سريعًا إلى الطبيب، الذي أمر بإجراء فحص لصفائح الدم.
استلفت تكاليف الفحص من جارتي، ذهبت أراجع حالة ابنتي بنفسي. وعند استلام نتائج الفحص، اصطدمت بحقيقة أنه لا يمكن تسليمها إلا للأب، وما زاد من قلقي، لم يسمح لي بالدخول معه لمقابلة الطبيب. بقيت أنتظر خارجا، وبمجرد خروجه سألته عن الحقيقة، وكانت إجابته محاولة لتهدئة روعي، فقررت ألا أبرح المستشفى حتى أعرف ما يُخفى عني.
واجهت الحقيقة المريرة بأن ابنتي مصابة باللوكيميا، وأن العلاج يقتضي السفر إلى صنعاء. والوقت كان في أول يوم من شهر رمضان. حينها اظلمت الدنيا امامي وبقيت على حالة الصيام، الا ان أيادي العون من أهل الخير غمرتنا بعطفها. ومنها بدأنا رحلة العلاج، انطلقنا فورا من تعز إلى صنعاء.
في صنعاء، كان في استقبالنا الدكتور عبد الرحمن الهادي، مدير وحدة اللوكيميا، وطاقم الوحدة النبلاء. وهناك بدأ مشوار العلاج. وهناك من كان يقف إلى جانبنا من فاعلي الخير في شهر رمضان.
مع نهاية رمضان، وجدت نفسي وحيدة مع خواطري في زاوية حديقة الألعاب، تأملت كيف سيأتي الغد وما الذي ينتظرنا. بدأ التفكير في مصدر للمعيشة والعلاج يضغط على ذهني، في ظل ظروف زوجي الصعبة.
بعد تفكير عميق، ألهمني الله، فكرة مشروع بيع الألعاب لأطفال اللوكيميا. في زاوية من حديقة الوحدة، بدأت في تنفيذ الفكرة كخطوة لتحدي الصعاب. وبحمد الله، من ثم دعم الدكتور عبد الرحمن وكل الفريق العامل في الوحدة، نجح المشروع.
اليوم، بفضل الله، صار المشروع يفيض عليَّ، إلى جانب مساندة أيادي الخير، بما يغطي تكاليف مسكننا البسيط، وعيش الكفاف. وتمكنت من متابعة مراحل علاج ابنتي، التي بدأت تظهر عليها علامات التحسن.
بدأت “رضا” تلقي العلاج الكيماوي منذ رمضان الماضي، ومرت بمشوار العلاج المضنى ولحظات الألم الشديد والظروف المعيشية العصبية. وكانت أصعب اللحظات ألما هي لحظة فقدان شعرها، التي جلبت معها لـرضا اكتئاباً، كابدناه معاً.
بعد استكمال الجرعات الأولية، واجهتنا صعوبات مالية في تغطية تكاليف الجرعات الأكثر كلفة التي تحتاج لمغذيات خاصة. تأخير الجرعة الثانية جلب معه قلقاً شديداً من احتمالية الانتكاسة، لكن الأمل عاد من جديد بنتائج فحص إيجابية.
تخوض رضا، الآن، مرحلة العلاج الثالثة، والحمد لله، بدأت تستعيد قواها وتستأنف حياتها بشكل طبيعي، كما أنها لم تعد بحاجة لنقل دم أو صفائح، وتتحسن حالتها النفسية تدريجيًا.
وتختتم أم “رضا” الحكاية، بتقديم أسمى آيات الشكر والتقدير إلى مدير وحدة علاج لوكيميا الأطفال في صنعاء، الأب الحنون مدير الوحدة، وكافة أعضاء طاقم الوحدة من أطباء وممرضين وجميع العاملين، لما يبذلونه من جهود في تقديم أفضل رعاية ممكنة للمرضى، رغم التحديات المادية والنقص الحاد في المستلزمات والأدوية.
أم رضا.. تقدمت- أيضا- بأسمى آيات الشكر والعرفان إلى كل فاعلي الخير، جهات رسمية وتجار ومجتمع، ممن مدوا يد العون إليها وإلى كافة أطفال اللوكيميا.. مؤكدة إليهم: نعم، تتوالى المحن، لكن الأمل لن يموت في قلوبنا. وكل يوم ننتصر فيه، هو باستمرار عطائكم في التدفق.

قد يعجبك ايضا