مزاعم "العداء للسامية" تتهاوى أمام مبدأ "العدالة العرقية"
احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية.. هل تغيّر بوصلة واشنطن تجاه الكيان؟
غدت 3 أسابيع من احتجاجات مناهضة للحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة عمّت الجامعات الأمريكية؛ تبدو الإدارة الأمريكية مقبلة على عواصف سياسية كبيرة من شأنها تغيير قواعد “الدعم المفتوح” الذي تقدمه لدولة الكيان، في ظل تقديرات تتحدث عن أن آثاراً سياسية مهمة لحركة الاحتجاجات الطلابية لن تمسّ فقط سياسة واشنطن تجاه إسرائيل بل سيمتد إلى حكومة اليمين المتطرف الغارقة بجرائم حرب بداخل قطاع غزة منذ سبعة أشهر.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
على وقع مجازر الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، جاءت هتافات المحتجين من طلاب الجامعات الأمريكية “فلسطين حرة” و “أوقفوا الدعم الأمريكي لإسرائيل” كأول ضغوط سياسية يمارسها طلاب الجامعات لحمل الإدارة الأمريكية على إنهاء جرائم الاحتلال في قطاع غزة، وحضها على ترجمة أقوالها إلى أفعال بإرغام دولة الكيان على الاعتراف بحق الفلسطينيين بقيام دولة مستقلة ذات سيادة انتصاراً لمبدأ “العدالة العرقية”.
وعلى أن الإدارة الأمريكية المنهمكة في معركة انتخابية صعبة هذه المرة اختارت التزام الصمت حيال الاحتجاجات أملا في تنتهي سريعاً، إلا أن الاحتجاجات بما حملته من مطالب عادلة بدت ملهمة لكثيرين وسرعان ما توسعت إلى اعتصامات مفتوحة ومخيمات احتجاج نُصب في باحات معظم الجامعات الأمريكية وتطالب بمواقف حاسمة حيال الحرب الوحشية في غزة والإنهاء السريع لمعاناة الفلسطينيين المحاصرين بجنوب القطاع.
زاد من زخم الاحتجاجات ردود الفعل القمعية لقوات الشرطة التي داهمت بعض المخيمات الجامعية بمعدات مكافحة الشغب وفضها المخيمات بالقوة واعتقال أكثر من ألفي طالب وأستاذ في مشاهد تكررت في العديد من الجامعات، ومنحت الاحتجاجات تأييدا واسعا انتقل في الأسبوع الأول إلى 20 جامعة أمريكية قبل أن تمتد إلى كل الجامعات بما بات يُعرف بـ”مخيمات التضامن من أجل غزة”.
والمطالب التي رفعها المحتجون المناهضون للحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة، ومعهم نشطاء المنظمات المدنية المتضامنة مع القضية الفلسطينية تمثلت بإعادة النظر في العلاقات الأكاديمية والبحثية بين جامعاتهم والجامعات الإسرائيلية، وقطع العلاقات بين الجامعات الأمريكية وأي شركات ترتبط بإسرائيل، لكنها في واقع الأمر لم تخف مطالب ملحة في الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة والتنديد بالدعم العسكري الذي تقدّمه الولايات المتحدة لإسرائيل.
حراك واسع
منذ عقود لم تشهد الجامعات الأمريكية حراكاً طلابياً واسعاً بهذا الحجم، خصوصاً مع إصرار الطلاب على الاستمرار في الاعتصام بداخل المخيمات لحين تحقيق مطالبهم رغم التهديدات التي مارستها بحقهم إدارات الجامعات بالتوقيف من الدراسة والفصل، وكذلك المداهمات العنيفة من الشرطة والاعتقالات التي طالت أكثر من الفي طالب وطالبة.
ذلك أن أعمال العنف الوحشية المستمرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ذكّرت طلاب الجامعات الأمريكية بتلك التي صدح بها أسلافهم في ستينيات القرن الماضي للمطالبة بإنهاء الحرب في فيتنام، والدعوة إلى «تحقيق العدالة العرقية» والتي تطورت إلى نزاع وطني بعد الممارسات القمعية العنيفة لقوات الحرس الوطني ضد المتظاهرين والتي كانت سببا في نقل الاحتجاجات إلى جميع دول العالم.
والأمر المثير للاهتمام هو أن الاحتجاجات الطلابية كشفت عن جيل أمريكي جديد مشبع بالوعي السياسي والقانوني، ولديه حصانة من الخطابات الدعائية والبروبغاندا، كما لديه ما يكفي من الأدوات التي يمكن من خلالها ممارسة الضغط السياسي على حكوماته لتحقيق العدالة ونموذجه الحي في ذلك هو الدفاع حقوق الشعب الفلسطيني ومطالبه المشروعة وحقه في الحماية الدولية ورفض الرؤى الإسرائيلية في مصادرة الحقوق بذريعة خطاب الكراهية ومعادة السامية.
هذا الأمر كان واضحا في البيانات والتصريحات التي أطلقها الطلاب المحتجون والتي حمّلت إدارة الرئيس بايدن المسؤولية حول الحرب الوحشية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المدنيون والنازحون والمعاناة الإنسانية التي يعانيها أكثر من مليون ونصف فلسطيني نزحوا من منازلهم باتجاه مدينة رفح في ظل انعدام كل مقومات الحياة الأساسية.
معادة السامية
الاحتجاجات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية والتي خرجت هذه المرة من داخل الجامعات الأمريكية أثارت قلق الإدارة الأمريكية بذات القدر الذي أثارت فيه قلق حكومة الكيان التي تخشى أن تكتسب الاحتجاجات القدرة على تغيير بوصلة السياسات الخارجية لواشنطن تجاه إسرائيل والشرق الأوسط.
ولمرات عدة حاولت الإدارة الأمريكية التقليل من شأن الاحتجاجات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية وحاولت كبحها بربطها بـ «معادة السامية» في القانون الذي أصدره مجلس النواب الأمريكي مؤخرا والذي وسع فيه التعريف المعتمد في وزارة التعليم لمصطلح «معاداة السامية» ليشمل حظر انتقاد إسرائيل.
كان مفهوما سبب صدور هذا القانون، فقد جاء بعيد تصريحات غاضبة قادمة من إسرائيل ضد حركة الاحتجاجات الطلابية والتي وصفها مسؤولون إسرائيليون بأنها « معادية للسامية» وطالبوا بـ»التصدي لها»، ما أثار انتقادات واسعة في كون التشريع الجديد، سيحد من حرية التعبير وسيقدم الذرائع لقمع الاحتجاجات الطلابية التي اشتعلت في كل الجامعات الأمريكية.
مع ذلك بدت خطوة ربط هذا القانون بحركة الاحتجاجات الطلابية قد سقطت قبل أن تصل إلى مجلس الشيوخ فالشعارات التي رفعها المحتجون كانت مناهضة لما يمكن اعتباره إرهاب دولة تمارسه دولة الكيان التي تُمثل الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما يجعل الشعارات المرفوعة من قبل المحتجين عدائية لسياسة حكومة في حرب غير متكافئة وليس معادة للسامية.
مرة أخرى حاول البيت الأبيض، تقليل شأن الاحتجاجات الطلابية عندما أعلن الناطق باسم البيت الأبيض أن «عددا صغيرا من الطلاب يتسببون بهذا التعطيل وإذا أرادوا الاحتجاج فيحق للأمريكيين القيام بذلك بطريقة سلمية وفي إطار القانون»، ملحقا تصريحه بأن البيت الأبيض «سيواصل التنديد بخطاب الكراهية كما يفعل تجاه «معاداة السامية».
لكن الطلاب المحتجين بدوا مدركين لهذا الخلط المتعمد، وأعلنوا أن احتجاجاتهم تطالب بقطع العلاقات بين الجامعات وإسرائيل وسحب الاستثمارات منها، كما رفعوا لافتات تدعو للتمييز بين خطاب الكراهية والرأي السياسي، وتحث على رسم حدود تفرق بين معاداة السامية ومعاداة سياسات إسرائيل ناهيك عن تأكيدهم بأن الأصوات المتطرفة الحاملة لخطاب الكراهية والتي ظهر بعضها خلال الاحتجاجات لا تمثلهم مؤكدين أن اعتصامهم من أجل فلسطين سيتواصل.
ومن جهة ثانية، فإن إجراءات التقاضي الجنائية التي شرعت بها السلطات الأمريكية بحق المحتجين المعتقلين سقطت هي الأخرى بعد أن أصدرت محاكم أمريكية أوامر بإطلاق سراح الطلبة والمدرسين المعتقلين في خطوة اعتبرها خبراء أساسا قانونيا مهما سيقود إلى إطلاق سراح بقية المعتقلين من سائر الجامعات.
وأكثر من شعر بالذعر من الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية هو إسرائيل، فحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل كانت تعي جيداً أن الحركة الاحتجاجية الطلابية سيكون لها تأثيرات سلبية على الدعم الذي تحصل عليه سياساتها العنصرية بحق الشعب الفلسطيني في دوائر القرار الغربية.
وثمّة تجارب مهمة في التاريخ ترجح ذلك، فالاحتجاجات التي جرت ضد نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي أفلحت في النهاية بإسقاط «نظام الأبرتايد» ما أشعل مخاوف كبيرة لدى حكومة الكيان التي عملت على مدار عقود بداخل الولايات المتحدة لمنع أي أنشطة مناهضة للسياسة العنصرية الإسرائيلية أو تدعو لمقاطعة إسرائيل بسببها.
أزمات دستورية
أمام موجة الاعتقالات التي طاولت أكثر من الفي طالب وناشط وأستاذ جامعي بسبب مشاركتهم في حركة الاحتجاجات الطلابية، ستجد إدارة بايدن نفسها وسط أزمة مع التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي يحمي حرية التعبير مهما كان محتواها ويمنع اعتقال أي شخص بسبب التعبير عن رأيه كما يمنع الكونغرس من إصدار أي قانون يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميا أو مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف.
هذا الأمر عبّر عنه «الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية» الذي قال إن «الاعتقالات الجماعية للمتظاهرين لا فائدة لها في وقف التهديد الحقيقي لمعاداة السامية، ودعوته المسؤولين إلى عدم الخلط بين دعم حق الفلسطينيين في الحياة وانتقاد إسرائيل، وبين معاداة السامية.
ويتزايد مأزق إدارة الرئيس بايدن مع التوجهات الطلابية الجديدة التي تعتبر حراكهم الاحتجاجي علامة فارقة ودرساً حيّا في التاريخ لن يتوقف إلا بعد تنفيذ مطالبهم بتحقيق مبدأ العدالة العرقية» من خلال تغيير السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل، وسياستها في الشرق الأوسط، وهو امر سيتطلب من إدارة الرئيس بايدن مواقف عملية، تتناسب مع سقف المطالب الذي يبدو مرشحا للارتفاع في الأيام القادمة.
يزيد من احتمال ذلك أن المحتجين في جميع أنحاء الولايات المتحدة أبدو استعدادهم للمشاركة في موجة احتجاجات ثانية وثالثة مؤيدة للشعب الفلسطيني ورافضة لاستمرار الحرب الإسرائيلية في غزة، في ظل توقعات تُرجح تزايد المواجهات بين المحتجين والشرطة من جهة وإدارة الجامعات من جهة ثانية.
سياسات منحازة
حركة الاحتجاجات المستمرة في الجامعات الأمريكية ليست جديدة على كل حال فقط انخرط طلاب الجامعات الأمريكية في احتجاجات بشأن التغييرات المناخية والسيطرة على حيازة السلاح وغيرها، ف يحين أن الاحتجاجات الحالية تندرج في إطار احتجاجات أخرى نظمت خلال السنوات الماضية دفاعا عن مبدأ «العدالة العرقية».
لكن المهم في الأمر هو إقرار البعض بأن موجة الاحتجاجات كشفت عن وجود فئة من الشباب الأمريكي يرفضون أو أنهم على الأقل غير راضين عن سياسة الرئيس جو بايدن المؤيدة بشكل مطلق لإسرائيل في حربها على غزة، وهو ذات الموقف الذي عبرت عنه كتل سياسية ليبرالية وازنة في وقت سابق بإعلان رفضها استخدام أموال الضرائب لتمويل إسرائيل، ومطالبتها إدارة بايدن رهن استمرار الدعم حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية بوقف دائم لإطلاق النار في غزة.
ورغم محاولة الإدارة الأمريكية وإدارات الجامعات وسم الاحتجاجات بأنها قد تنطوي على ممارسات «معادية لسامية» إلا أن الاحتجاجات الطلابية كشفت عن رفض قطاع واسع من جيل الشباب الأمريكي اتهامات «معاداة السامية» ومحاولتهم بالمقابل إظهار صورة حضارية لمواجهة هذه المزاعم بمشاركة طلاب يهود في الاحتجاجات، بل وشروعهم بإقامة الصلوات اليهودية والإسلامية في مكان واحد.
وكل التقديرات تشير إلى احتمال تزايد نشاط الاحتجاجات الطلابية الدعمة لحق الشعب الفلسطيني، في حين أن العنف الذي أبدته أجهزة الشرطة والجامعات بحق المحتجين سيزيد حتما من إصرارهم على الاستمرار لحين تحقيق المطالب التي ستكون لها نتائج على مسار الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل.
ويكفي للدلالة على ذلك أن العديد من الكتل الطلابية الجامعية تؤكد إن معارضتها للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة تأتي تطبيقا لما درسوه في جامعاتهم في مادة «كولومبيا 1968» المتعلقة بالاحتجاجات على حرب فيتنام، وانهم ينظرون حاليا في استراتيجيات وتكتيكات حركات العدالة الاجتماعية الماضية والحالية لمحاولة تعلم الدروس منها.
ومع ذلك فإن المرجح ألا يكون للاحتجاجات الطلابية الجامعية تأثير قوي على دوائر القرار في المدى القريب في حين أن تأثيره سيكون حتميا على المدى المتوسط كما سيكون حتميا أكثر في المستقبل فهذا الجيل الذي سيتربع على مراكز القرار في المستقبل سيعيد بلا شك رسم وجه السياسة الأمريكية الحالية بأخرى جديدة في المستقبل.