ماذا بعدما بدأ الخناق يضيق حول رقبة نتنياهو؟

حسن نافعة

 

 

يصعب فهم الكثير مما يجري في المنطقة من دون سبر أغوار مسألتين على جانب كبير من الأهمية: شخصية بنيامين نتنياهو ونسقه العقيدي، والتركيبة السياسية والنفسية للمجتمع الإسرائيلي في مرحلة تطوره الراهنة، فنتنياهو هو أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل” يولد في فلسطين المحتلة، نظراً إلى أن جميع من سبقوه من رؤساء الوزارات ولدوا وعاشوا ردحاً كبيراً من الزمن خارج فلسطين، ما يعني أنه الوحيد من بينهم الذي لم يخض بنفسه غمار تجربة “الدياسبورا”، ولم يكن له أي دور في الحركة الصهيونية التي أخذت على عاتقها مهمة تأسيس دولة لليهود في فلسطين، وهو أيضاً أصغر رئيس وزراء في تاريخ هذا الكيان، لأن عمره حين تولى منصب رئاسة الوزراء لأول مرة كان أقل من 50 عاماً.
يضاف إلى ذلك أنَّ مجموع السنوات التي قضاها في هذا المنصب بلغ حتى الآن ما يقارب 16 عاماً، وهي فترة تكاد تعادل ضعف الفترة التي قضاها أي رئيس وزراء آخر في تاريخ الكيان الصهيوني، بما في ذلك بن غوريون نفسه مؤسس الدولة اليهودية.
لذا، يشعر نتنياهو في قرارة نفسه بأن “إسرائيل” هي “وطنه” الذي لا وطن له سواه، وأنه ينتمي إلى جيل آخر تقع على عاتقه مهمة استكمال المشروع الذي بدأه الآباء المؤسسون.
ولأنه بدأ يشغل هذا المنصب الرفيع بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو التي عارضها منذ البداية، وبعد رحيل رابين الذي كرس اغتياله توجه المجتمع الإسرائيلي نحو مواقف أكثر يمينيةً وتطرفاً، ترسخت لدى نتنياهو قناعة مفادها أنه بات الشخص المؤهل لقيادة واستكمال حلم إقامة “دولة إسرائيل” الكبرى، وبالتالي لأن يصبح “ملك صهيون الجديد”.
في كتابه “مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم”، المنشور عام 1993، وكذلك في تصريحات إعلامية لاحقة، أفرط نتنياهو في التباهي بـ”إسرائيل” كواحة ديمقراطية قائمة وسط صحراء الاستبداد العربي، وبقدرتها الهائلة على صنع المعجزات في مختلف مجالات الحياة، رغم صغر حجمها ومحدودية ثرواتها الطبيعية ووقوعها داخل محيط من الدول المتخلفة والعاجزة.
ولتثبيت هذه الفكرة في الأذهان، راح نتنياهو يشبه “إسرائيل” في مجتمع الدول ببيل غيتس في مجتمع البشر، ويردد أن بيل غيتس استطاع بذكائه وعبقريته ومواهبه أن يصبح واحداً من أغنى وأقوى البشر في العالم، فما الذي يحول دون أن تتمكن “إسرائيل”، بما يملكه “شعبها المختار” من قدرة على المبادرة والابتكار، من أن تصبح واحدة من أغنى وأقوى دول العالم!
ولا شكَّ في أنّ نجاح نتنياهو في إجهاض اتفاقيات أوسلو من ناحية، وفي حمل العديد من الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل” من دون انتظار لقيام الدولة الفلسطينية، عمّق لديه من ناحية أخرى الشعور بقرب انتصار واستكمال بناء المشروع الصهيوني، وبالتالي بقرب إعلانه ملكاً متوجاً لدولة “إسرائيل” الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.
لذا، كانت صدمته النفسية هائلة حين صحا من نومه صبيحة يوم السابع من أكتوبر 2023 ليجد نفسه غارقاً وسط “طوفان الأقصى”، ومعه الحلم الصهيوني الذي بدأ يتحول إلى كابوس.
تجدر الإشارة هنا إلى أن رد الفعل الإسرائيلي على “طوفان الأقصى” عكس عنجهية نتنياهو وغروره من ناحية، وتطرف المجتمع الإسرائيلي وعنصريته من ناحية أخرى.
وبدلاً من البحث عن رد عقلاني وواقعي، أبت شخصية نتنياهو المتعجرفة والمتعالية إلا أن يأتي الرد على شاكلتها، وهو ما يفسر سبب قرار نتنياهو شن حرب انتقامية شاملة على الشعب الفلسطيني كله، وليس على حماس أو على فصائل المقاومة وحدها، وسبب تحديده لهذه الحرب أهدافاً غير قابلة للتحقيق ولا تمت إلى الواقعية بصلة، كتدمير حماس وإسقاط حكمها في قطاع غزة واستعادة الرهائن، وربما إعادة احتلال واستيطان القطاع.
ولأن إدارة بايدن هرعت لنجدته، وقامت بفتح خزائن المال والسلاح الأميركي ليغرف منه ما يشاء، تصور نتنياهو أن بإمكانه، ليس إنجاز الأهداف التي حددها فحسب، إنما اغتنام الفرصة المتاحة أيضاً لإفراغ قطاع غزه من سكانه، سواء عبر الإبادة الجماعية أو التهجير القسري. ولم يختلف موقف المجتمع الإسرائيلي كثيراً عن موقف نتنياهو وحكومة الحرب التي نجح في تشكيلها على الفور.
بدلاً من المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمحاسبة نتنياهو وحكومته على عجزهما عن توفير الحماية للمواطنين الإسرائيليين وإتاحة الفرصة أمام حماس لإذلال “جيش إسرائيل الذي لا يقهر”، إذا بالمجتمع الإسرائيلي في مجمله يزايد على نتنياهو وحكومته ويطالبهما بالانتقام من كل الفلسطينيين الذين وصفهم بـ”الوحوش الآدمية”، وتخرج من بين صفوف نخبته السياسية والفكرية أصوات تطالب بضرب قطاع غزة كله بالقنابل النووية.
ولأن نتنياهو وحكومة الحرب التي شكلها لم يتمكنا من تحقيق أي من الأهداف المجمع عليها، فقد بدأت الشروخ تظهر من جديد في جسد المجتمع الإسرائيلي تحت تأثير عدد من العوامل، أهمها:
أولاً: صمود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة لأكثر من ستة أشهر حتى الآن، مع تواصل قدرتها على إلحاق أفدح الخسائر بـ”جيش” الاحتلال الذي بدأت تظهر عليه علامات الإنهاك والعجز.
ويحاول نتنياهو حالياً إيهام الداخل الإسرائيلي بأن الجزء الأكبر من قوات حماس أبيد، ولم يتبقَ منها سوى جيب صغير يتمركز في مدينة رفح التي راح يصر على اجتياحها برياً كي يتمكن من إعلان “النصر المطلق”، غير أن التقارير الصادرة مؤخراً عن أجهزة الاستخبارات الغربية، بما فيها الأجهزة الأميركية، تؤكد أن القضاء على حماس يحتاج إلى سنوات، فضلاً عن أن الاجتياح البري لرفح، والتي يتكدس فيها ما يقارب مليوناً ونصف مليون نسمة، ستترتب عليه خسائر بشرية مهولة، غير أن نتنياهو يريد التعلل بهذه الذريعة لتبرير فشله.
ثانياً: فشل مخططات التهجير القسري بسبب صمود الشعب الفلسطيني وإصراره الأسطوري على البقاء في غزة، رغم ما تكبده من خسائر بشرية فادحة تكاد تصل إلى ما يقارب 50 ألف شهيد و100 ألف جريح (خصوصاً إذا احتسبنا المفقودين الذين ما زالوا تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية لم تكتشف بعد)، ورغم إقدام “الجيش” الإسرائيلي على تدمير معظم المباني السكنية والمستشفيات والمدارس وارتكاب عمليات إبادة جماعية، وصلت إلى حد تجويع الشعب بأكمله، بل ومطاردة وقتل الباحثين عن صناديق الإغاثة التي تلقيها الطائرات من الجو.
ثالثاً: تمكّن محور المقاومة من تشكيل جبهة إقليمية مساندة للفصائل الفلسطينية التي تتصدى للجيش الإسرائيلي المغير على قطاع غزة، رغم حشود عسكرية ضخمة كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية قد دفعت بها نحو المنطقة لتمكين الجيش الإسرائيلي من الاستفراد بغزة وردع محور المقاومة والحيلولة دون اتساع نطاق المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة. وكان حزب الله اللبناني هو أول من بادر إلى تقديم العون والمساندة، ثم دخل أنصار الله في اليمن على خط المواجهة، وأخيراً فصائل الحشد الشعبي العراقية.
رابعاً: فشل محاولات نتنياهو المتكررة في الهروب إلى الأمام، عبر العمل على جر الولايات المتحدة للدخول في حرب مع إيران، كان آخرها قراره بالإغارة على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أدى إلى اغتيال عدد من ضباط الحرس الثوري الإيراني، غير أن هذه المحاولات أسفرت عن نتيجة معاكسة تماماً، هي دخول إيران طرفاً مباشراً في الصراع العسكري ضد “إسرائيل”، وعدم انزلاق الولايات المتحدة للدخول في حرب معها.
صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها حشدوا قواتهم في المنطقة للدفاع عن “إسرائيل” التي ثبت مرة أخرى أنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها بمفردها، لكنها أفصحت لـ”إسرائيل” في الوقت نفسه عن أنها ملتزمة بالدفاع عنها، لكنها لن تشارك مطلقاً في الهجوم على إيران، ما أسفر عن تمكّن الأخيرة من رسم خطوط ردع جديدة تصب في النهاية في مصلحة محور المقاومة.
خامساً: اهتزاز صورة “إسرائيل”، ومعها الولايات المتحدة، أمام الرأي العام العالمي، فقد اندلعت في معظم العواصم العالمية تظاهرات عارمة داعمة للقضية الفلسطينية ومطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، وخصوصاً عقب مثول “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وصدور أمر من المحكمة يلزم “إسرائيل” باتخاذ إجراءات احترازية طلبتها حكومة جنوب أفريقيا، ما يعني اقتناع المحكمة بوجود دلائل تشير إلى احتمال ارتكاب “إسرائيل” هذه الجريمة البشعة.
نخلص مما تقدم إلى أن الخناق بدأ يضيق حول رقبة نتنياهو بعد فشل حكومته اليمينية المتطرفة في:
1- منع وقوع عملية طوفان الأقصى من الأساس. 2- تدمير حماس أو إسقاط حكمها في القطاع. 3- استعادة الأسرى المحتجزين لدى حماس داخل القطاع. 4- إجبار الشعب الفلسطيني على الرحيل قسراً من أرضه، بل إن قرارات نتنياهو وتصرفات جيشه في ميدان المعركة أديا معاً إلى انكشاف عجز “إسرائيل” عن الدفاع عن نفسها واعتمادها إلى حد كبير على دعم الولايات المتحدة والدول الغربية من ناحية، وانكشاف همجية جيشها وعنصرية نظامها السياسي الإسرائيلي وتفكك مجتمعها على نحو لم يحدث له مثيل من قبل من ناحية أخرى.
وبهذا يكون الخناق قد بدأ يضيق حول رقبة نتنياهو الذي لم يعد أمامه سوى الاختيار بين بديلين، الأول: الرضوخ لكل الشروط التي طلبتها حماس لإبرام صفقة لتبادل الأسرى، والآخر هو الهروب إلى الأمام مرة أخرى باجتياح مدينة رفح أو بالتصعيد ضد حزب الله، والأرجح أن يفشل في كلا الحالتين، وأن ينتهي الأمر بالرضوخ لوقف دائم لإطلاق النار وسقوط حكومته وبداية محاكمته، ما يعني دخول المنطقة في مرحلة جديدة ستصبح اليد العليا فيها لمحور المقاومة.
كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

قد يعجبك ايضا