هل توقف زمن (المساح)..؟!

طه العامري

 

 

كان له (لحظته) المفعمة بتراتيل الحب وحروف العشق، لعقود كنت وأمثالي كثيرون نبدأ قراءة الصحيفة الأولى في البلاد من الصفحة الأخيرة حيث (العمود) الذي يشد القارئ إليه ليس لمعرفة أخبار الكون، بل لمعرفة ما يجود به (يراع) مبدع تعفرا بتراب وطن، رجل عشق وطنه على طريقته فكان أصدق العشاق وأبرهم وأكثرهم إخلاصا، وكان يزرع عموده كل صباح بحروف من صدق، حروف تحمل لنا كل صباح مشاعر الحب والانتماء، ومشاعل التنوير تضيء لمن (يكحل) بها عيونه كل صباح مسامات الوعي وتشده نحو الجذور والهوية بدون رتوش ولا تكلف..
كان (المساح) مدرسة نعم.. لكنه كان أيضا (جامعة وأكاديمية) للتواضع، كان مثقفا عضويا، ومبدعاً اجتماعياً، لم يكن (نرجسيا) مع أن أحدا لن يلومه لو كان كذلك، ولما لا وهو المبدع المتألق في بلاط صاحبة الجلالة لعقود، ومع ذلك كان (المساح) الكاتب والصحفي والقاص والأديب والمبدع المتجدد، ورئيس تحرير الصحيفة الأولى في البلاد، هو (المساح) (البتول الرعوي) وابن الأرض، كانت (القرية) تعني له دوحة الاستجمام، كانت له بديلة عن كل منتجعات الدنيا.
من على أرصفة الوطن ومن هموم الغلابة غالبا ما اقتبس حروف (لحظته) وحولها إلى (سمفونية) بلغة راقية لكنها سهلة الفهم يدركها المثقف والحاكم والوزير، كما يدركها البتول والرعوي والراعي ويتلذذ بها (الشقاة)..!
كان إيقونة المهنة، أو كما اطلق عليه زميله ورفيق دربه الأستاذ عبدالرحمن بجاش لقب (زرياب الصحافة اليمنية)..
بين (زرياب والخياطة الصينية) و(وزرياب الصحافة اليمنية) ثمة قواسم مشتركة، غير أن (زريابنا) أكثر ثورية ومثالية وتواضعاً وإنسانية من (زرياب) الآخرين..!
(المساح) قد لا يكون إبداعه من أبهرنا وسحرنا، بل أكثر ما سحرنا هو (المساح _الإنسان) المثقف الذي غاص في أعماق المجتمع بريفه والمدينة، المبدع الراقي والمثقف الاجتماعي، والمبدع (الحافي) والصحفي المثالي الذي أجمع على احترامه كل الوطن، ومع ذلك لم يتغير ولم يغتر ولم يتعال، ولم يصب بدأ الغرور، في سلوكه ومواقفه وملابسه وطريقة حياته كان ابن تراب الأرض وابن وطن، حلم بمجده وتقدمه عرفته (السجون والزنازين) كما عرفته أزقة وحواري وشوارع صنعاء وتعز وعدن وكل مدن الحاضرة الوطنية اليمن، وعرفته شعاب القرية وأحوالها ومراعيها وحين ضاقت صنعاء به وبعض من أمثاله لم يختر مدن وعواصم الخارج وكان بمقدوره أن يعيش ملكا في أي عاصمة فقط لو أشر إشارة فهناك كثيرون كانوا على استعداد لأن يجعلوه يعيش ملكا متوجا حيث يريد، لكنه (المساح) اختار القرية واختار أن يتحول من راعي الحروف إلى راعي (الكسب والماعز) ومن حراثة الكتب إلى حراثة الأرض، مع إنه نقل إلى دارته بالقرية مكتبة عامرة تحتوي على أجمل وأعظم المؤلفات السياسية والأدبية ولم يتخلف عن معانقة الكتاب يوما.. الله ما أعظمك يا (مساح) وما أعظم تاريخك وسيرتك، وإنسانيتك..
كان آخر تواصل بيننا في منتصف العشر الأواخر من رمضان الماضي ولايزال صوتك يرن في أذني (وينك يا وليييد)؟ أين غيبك الزمن..؟
وبعد أخذ ورد (ما فيش فائدة يا صاحبي روح اتمرعي، وانقل العيال للدراسة بالقرية مش في مدارس عندكم بالقرية).؟
أه.. رحل كثير من الزملاء، غير أن رحيل (المساح) مؤلم.. مؤلم.. مؤلم.. رغم أن علاقتنا لم تكن عميقة كعلاقته ببعض الزملاء والأساتذة الأفاضل الذين أتمنى من الله أن يعصم قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان وخاصة الأعزاء عبدالرحمن بجاش، فؤاد عبدالقادر، د. عبدالقادر مغلس، هاشم عبدالرزاق، عبدالباري طاهر، عبدالله عبدالإله، سالم المعمري، وآخرين كثر، ومن لم يرتبط مع (المساح) بعلاقة متميزة واستثنائية.. إنه (المساح) الإنسان الذي استوطن وجدان زملاء الحرف والكلمة، كما استوطن ذاكرة الزمن والمكان، وحاضر في وجدان سكان الريف والمدينة.. المساح الذي سوف تبكيه وتحزن على فراقه تضاريس القرية ومراعيها، كما ستفتقده حواري وأزقة صنعاء وشوارعها ومقاهيها..
رحمك الله أستاذنا ورحم زماننا بعدك، فبعدك لا (لحظة) نقف على تفاصيلها ولا (زمن) قد نستجديه.
خالص العزاء وعظيم المؤاساة لكل أولادك وأفراد أسرتك ولكل أصدقائك ومحبيك حيث كانوا ويكونون.

قد يعجبك ايضا