يجزم كل المحللين الاستراتيجيين أن معركة طوفان الأقصى تفجرت لدوافع ذاتية وموضوعية امتلكتها المقاومة العربية في فلسطين المحتلة، بعد سلسلة من التحركات التآمرية التي حاولت حكومة الكيان وإدارة البيت الأبيض ومعهم عواصم الاستعمار القديم الراعية للكيان الصهيوني اللقيط، إذ سعت هذه الأطراف مجتمعة، وبتخطيط صهيوني وإدارة ورعاية أمريكية _غربية، إلى استغلال المشهد السياسي العربي الرسمي تحديدا لفرض خيارات من شأنها تصفية القضية العربية الأولى، كرغبة صهيونية لم يتردد القادة الصهاينة في التعبير عنها في تصريحاتهم وإن بصورة غير مباشرة،
طوفان الأقصى احبطت مخططاً استراتيجياً لواشنطن، ناهيكم عن أنها زلزلت أركان العدو واربكت مؤسساته العسكرية والأمنية، وأصابت مؤسساته السياسية بصعقة لم يكن يتخيلها..!
على إثر هذا هرولت أمريكا التي بدورها تعيش أزمة مركبة أخطرها ما يتصل بنفوذها الجيوسياسي، بعد أن أيقنت أن معركة أوكرانيا خاسرة، وان ازمتها الجيوسياسية في المحيط الهادي وبحر الصين ومضيق تايوان وجنوب شرق آسيا آخذة في التقلص، وفيما كان الوطن العربي هدفها الجيوسياسي متخذة من (التطبيع) بين الدول العربية هدفا للتصدي لطموح الصين وروسيا الجيوسياسي بإبعاده الاقتصادية، وتطويق الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة بعد أن عجز وكلاؤها في المنطقة من تحقيق هذا الهدف، وعلى رأسهم كيانها الصهيوني اللقيط..!
رد الفعل الصهيوني الأمريكي على طوفان الأقصى جاء تحسيدا لاستراتيجية الصدمة والرعب المعتمدة أمريكيا منذ العام 1993م، حيث حشدت أمريكا العالم بأسره، منظماته وأجهزته وكل قدراته، لمواجهة حركة المقاومة في فلسطين كخطوة أولى، تتبعها الخطوة الثانية باتجاه لبنان وإنجاز ما لم تتمكن من إنجازه عام 2006 م وأخفقت في التوصل إليه عبر ما سمي بـ(الربيع العربي) وخاصة فيما يتصل بالمشهد العربي السوري والمقاومة في لبنان..!
بيد أن الفعل الصهيوامريكي الإجرامي والوحشي في قطاع غزة لم يأت بمعزل عن رغبة أنظمة عربية محورية أو هكذا يفترض أن تكون، إذ أن رغبة تصفية حركة المقاومة في فلسطين وخاصة حركتي (حماس والجهاد) بقدر ما هي رغبة صهيونية أمريكية، هي أيضا رغبة أنظمة عربية، كان تصورها أن الكيان بقدراته العسكرية قادر على سحق المقاومة خلال أيام أو أسبوع، وفي الحد الأقصى شهر، تكون بعدها المنطقة خالية من ( المنغصات الرايديكالية)!
ثم التوجه إلى جنوب لبنان وإجبار المقاومة على الأقل الى الانسحاب إلى ما بعد (نهر الليطاني)..!
لكن الصمود الأسطوري للمقاومة أربك كل هذه المخططات التأمرية، فيما رغبة أمريكا أيضا في حصر الصراع في نطاق قطاع غزة فشل أيضا، فيما جاء طوفان البحر الأحمر الذي أقدمت عليه صنعاء ليضع أمريكا والكيان وأنظمة التطبيع المرتهنة في أزمة حقيقية، أزمة مفرداتها تتشكل تصاعديا بصورة فضيحة للنظام العربي الإسلامي والنظام الدولي، فاليمن أسقطت بمواقفها أوراق التوت عن عورات المطبعين، ورعاة النظام الدولي الذي تحاول أمريكا فرضه عبر أساطيلها وبوارجها هو آخر الأوراق التي تعتمد عليها واشنطن التي تتجه نحو الانحطاط، وهذا السلوك هو ديدن أي إمبراطورية استعمارية تعيش مرحلة تراجعها، فتتخذ من القوة الغاشمة وسيلة لفرض خياراتها، ولكنها مع اليمن لم تجن سوى أنها ضاعفت من ازمتها وانحطاطها الأخلاقي كدولة عظمى يفترض أن تكون أكثر وعيا بالقانون الدولي الذي تزعم الدفاع عنه في البحر الأحمر، وتتغاضي عنه في غزة وسوريا والعراق، وتجاهلته في اليمن على مدى عقد من الزمن..!
القانون الدولي أيضا لا يعطي أمريكا الحق في تقديم كل أشكال الدعم العسكري والاستخباري والمادي والإعلامي للكيان، والتغطية السياسية لجرائمه في المحافل الدولية، ثم تطلب من الآخرين ألا يقدموا لأشقائهم في فلسطين علبة مياه أو دواء أو وجبة طعام أو دفاء يقيهم حر وبرد الشتاء.
ثم تكذب على العالم وبوقاحة حين تزعم أنها تدافع عن الملاحة الدولية في البحر الأحمر، فيما لا أحد يستهدف الملاحة الدولية، واليمن أعلنت لكل الدنيا أنها تستهدف السفن الصهيونية أو المتجهة للموانئ في أرضنا المحتلة لخدمة الصهاينة، وربطت اليمن موقفها هذا برفع الحصار عن غزة وبإدخال المساعدات وبوقف العدوان.. أمريكا طبعا شعرت بالإهانة من موقف صنعاء المبدئي والثابت وغير القابل للمساومة، وهذا موقف لم تعتده واشنطن والكيان منذ عهد عبد الناصر _رحمة الله عليه _ بيد أن العدوان الأمريكي على الدولة اليمنية كان متوقعاً، لأن واشنطن تريد رد اعتبارها كحال حليفها الصهيوني الذي يخوض معركة إجرامية بهدف رد اعتبار مفقود، وهو الاعتبار الذي لن يعود إطلاقا، والحال كذلك بالنسبة لأمريكا التي لن ترد بعدوانها على الدولة اليمنية اعتبارها المفقود، وهيبتها التي داست عليها صنعاء بثقة واقتدار تجسيدا لقناعة مبدئية راسخة وغير قابلة للمساومة والتسويف، وان تغمز واشنطن من قناة إيران فهذا يندرج في سياق سياسة اختزال القضايا عبر مفردات ( كي الوعي)، فيما رغبة واشنطن تستهدف إحكام سيطرتها الجيوسياسية كخطوة استباقية تحاول من خلالها تأمين نفوذها والإبقاء على زعامتها القطبية، في مواجهة توجه العالم نحو عالم متعدد الأقطاب، ترى فيه واشنطن نهاية هيمنتها على العالم..!
إن طوفان البحر الأحمر الذي فجرته صنعاء وقواتها المسلحة، إسنادا لمظلومية شعبنا العربي في فلسطين، شكل صفعة ثانية لواشنطن بعد صفعة طوفان الأقصى الفلسطينية التي غدت رغم المجازر وحرب الإبادة الجماعية أيقونة نضال، أيقونة أيقظت معزوفتها ذاكرة العالم عن الحق العربي الفلسطيني وأخرجت القضية من دهاليز الصالونات والمحافل الدولية إلى ذاكرة الرأي العام الدولي الذي تحرك للشارع في كل مدن قارات العالم الخمس بما فيها الدول الراعية للكيان الصهيوني، التي داست أنظمتها على حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة وحقوق الإنسان، لأن الأمر يطال الكيان الصهيوني، الذي تعد مصالحه الاستعمارية فوق كل القوانين والقيم والأخلاقيات، وحين تصف واشنطن ولندن عدوانهما على اليمن بأنه ( دفاع عن أمنهما القومي)، تماهيا مع مقولتهما بـ(حق الكيان الدفاع عن نفسه)!
فإن هذا التبرير الأمريكي البريطاني يعطي اليمن بالمقابل شرعية قانونية وأخلاقية في حقها بالدفاع عن أمنها القومي في البحر الأحمر، وهي الأولى بهذا الحق من أمريكا وبريطانيا ومن يدور في فلكهما..!
فهل تريد واشنطن حصر الصراع؟ أم توسيع الدائرة، وما هي أهدافها المرجوة من هذا؟
كل المؤشرات تقول إن واشنطن تغامر بكل مكانتها الدولية، وبكل مصالحها، لإنقاذ كيانها من أزمة وجودية حقيقية، أزمة هي نتاج ضعف واشنطن وتراجع نفوذها الجيوسياسي والاستراتيجي منذ أقدمت على غزو العراق بمبررات كاذبة، وما لحق بواشنطن جراء سلوكها البلطجي، من إخفاقات أدت مجتمعة إلى تلاشى هيبة هذه الدولة وفقدانها لاحترام العالم، بما في ذلك الأنظمة المرتهنة لها منذ عقود والتي تجرأت خلال المرحلة الأخيرة على تحدي رغباتها بل ومساومتها بدليل أن غالبية حلفائها ابتعدوا عن رغبتها المشاركة في تحالف ما اسمته حماية الملاحة البحرية، باستثناء (كازينو البحرين)..!