خلافا للتوقعات التي رجّحت تأثير روحانية شهر رمضان على أطراف الصراع في السودان واستجابتهم للمناشدات الدولية والأممية لهدنة إنسانية في رمضان تتيح تدفق المساعدات لأكثر من نصف السكان المهددين بشبح المجاعة، شهدت الأيام الماضية تصعيدا عسكريا واسع النطاق بدد الآمال في استعادة السودانيين حياتهم التي فقدوها جراء الحرب، في تعقيدات تلوح بقرارات اممية تحت الفصل السابع قد تجعل من السودان نموذجا لواحدة من أفظع حروب القرن.
الثورة / أبو بكر عبدالله
منذ إعلان الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ترحيبهما بقرار مجلس الأمن الدولي لإعلان هدنة مؤقتة في السودان خلال شهر رضمان، لم يتحقق على الأرض أي شيء فجميع الأطراف المتصارعة أدارت ظهرها لمناشدات الهدنة الإنسانية والقرار الأممي بعد أن انخرطوا في معارك بالعاصمة الخرطوم ومدينة أم درمان، لم تغيير كثيرا من المعادلة العسكرية القائمة، سوى في إيقاعها مئات القتلى والجرحى وتشريد المزيد من المدنيين.
على الجانب الآخر كانت تقارير المنظمات الدولية تحذر من تدهور مريع في الملف الإنساني في ظل مقاربات تؤكد أن أقل من 5 % من السودانيين بالكاد يستطيعون تناول وجبة واحدة، بينما افتقد 95 % من الشعب السوداني لأول مرة القدرة على توفير وجبات تسد الرمق.
تقارير المنظمات الإنسانية افصحت عن أن نحو 90% من المدنيين المختبئين في أقاليم السودان المختلفة، صاروا يواجهون مستويات طارئة من الجوع وجميعهم عالقون في مناطق يصعب الوصول إليها في حين أن تطاول أمد الحرب أدى إلى تراجع قدرة السودانيين على التضامن بسبب تآكل المدخرات وفقدان أكثر من 8 ملايين من العاملين في القطاعين الحكومي والخاص والأعمال اليومية البسيطة أعمالهم أو يعانون من انقطاع مرتباتهم منذ شهور طويلة.
وجميع الأطراف يجمعون على أن النزاع العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع المندلع منذ ابريل العام الماضي تسبب بكارثة إنسانية كبيرة، يموت فيها عشرات الآلاف من المدنيين يوميا بسبب الجوع في ظل تصاعد أخطر أزمة سوء تغذية تعصف بحياة أكثر من 700 ألف طفل هذا العام.
وتهدد أزمة الجوع حاليا نحو 10 ملايين نسمة من السودانيين الفارين من الحرب ونحو 15 مليونا من العالقين في مناطق القتال، وسط مخاوف متزايدة من تكرار سيناريو المجاعات الكبرى التي عاشها السودانيون وعلى رأسها مجاعة “سنة 6” التي تعد واحدة من أشهر 4 المجاعات التي عرفها السودان في التاريخ.
تحت جحيم الحرب
مع اقتراب دخول الحرب في السوادان عامها الثاني في أبريل المقبل، يتذكر السودانيون آثار الحرب التي اندلعت قبل عشرين عاماً، والتي شهدت فيها ولاية دارفور أكبر أزمة جوع في العالم استطاع العالم حينها توحيد جهوده لمواجهتها ولكنهم يشعرون اليوم بالبؤس والفزع معا، بعد أن صاروا منسيين بأزمة انعدام للأمن الغذائي تهدد نحو ثلثي السكان.
والمشهد القاتم للأزمة يتحدث اليوم عن نحو 25 مليون نسمة منتشرون بجميع أنحاء السودان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثرهم فقدوا مصدر دخلهم وأعمالهم، وبينهم 8 ملايين نسمة هجروا من منازلهم وقراهم إلى مناطق بالداخل السوداني، فضلا عن مليوني نازح هربوا إلى مخيمات مؤقتة للجوء في تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان ليدفع أكثر من 20 مليون طفل الثمن الباهظ للحرب المشتعلة في معظم مناطق البلاد.
رغم ان فترة الحرب تعد قليلة قياسا إلى حروب أخرى مستمرة منذ سنوات، فقد تضافرت بحرب السودان العديد من الأسباب التي أدت إلى ظهور شبح المجاعة في كل أقاليم السودان بلا استثناء بما فيها إقليم العاصمة الخرطوم، بعد أن صار قصف الأحياء والمدن وتدمير البنى التحتية والنهب والحصار والاغتصاب والتهجير القسري وإحراق القرى ممارسات يومية يعانيها معظم السكان في هذا البلد.
وتبدو مفاعيل الأزمة أكثر فداحة في الجيوب المنسية الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع ولا سيما في إقليم دارفور وولاية غرب كردفان التي كانت حتى وقت قريب تحظى بعناية منظمات الإغاثة الدولية قبل أن تصدر هذه المنظمات بيانات تحذير جماعية من مخاطر نشوب كارثة إنسانية كبرى في هذه المناطق جراء استحالة إيصال مساعدات إنسانية للمدنيين العالقين فيها.
تتزايد المعاناة لدى المدنيين الذين فروا من قراهم وتقطعت بهم السبل في مخيمات لجوء في دولة تشاد المجاورة، في ظل أوضاع لم تعد اليوم تختلف عن الأوضاع التي يعيشها إقرانهم بالداخل السوداني بسبب شح المساعدات الدولية، في حين تتحدث التقارير الدولية عن آلاف المدنيين المحاصرين من قوات الدعم السريع في ولاية جنوب كردفان يعانون من نقص حاد في المواد الغذائية ومهددون بالمجاعة.
المشهد لا يبدو أفضل في المناطق التي كانت بعيدة عن الحرب، فجميع السودانيين البالغ تعدادهم نحو 43 مليون نسمة يعانون من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المهربة زاد من ذلك أن الحكومة السودانية لم تصرف المرتبات الشهرية لموظفي الخدمة المدنية منذ نحو 10 أشهر.
تعقيدات ومخاوف
قبل أسابيع تجاوزت السلطات السودانية مخاوفها من تدفق السلاح إلى قوات الدعم السريع المسيطرة على العديد من المناطق في اقليم دارفور، وقررت السماح بتدفق المساعدات اليها عبر تشاد، غير أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ، بعد أن تجاوزت التدخلات الدولية هذه المبادرة إلى أخرى تمثلت بالقرار الصادر عن مجلس الأمن بشأن هدنة رمضان والذي يقول السودانيون أنها فشلت قبل أن تبدأ.
وقرار الحكومة السودانية السماح بتدفق المساعدات إلى دارفور عبر تشاد، تزامنا مع قرارات أخرى سمحت أيضا بفتح مسارات بحرية وبرية عدة لدخول المساعدات عبر بورتسودان ـ عطبرة ومليط وكذلك عبر مسار تشاد ـ دارفور.
بررت الحكومة ذلك بحصولها على تعهدات بتفعيل القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2003 بحظر توريد الأسلحة إلى إقليم دارفور، فضلا عن حصولها على موافقات تمنحها حق التأكد من أن هذه القوافل تضم فقط مساعدات إنسانية وليس شحنات أسلحة إلى قوات الدعم السريع التي قالت الأمم المتحدة في وقت سابق أنها تستغل عدة منافذ لإدخال السلاح والذخائر إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها.
لكن المشكلة بدت مؤخرا، أكثر تعقيدا من مسألة تحديد ممرات آمنة لتدفق المساعدات، فخلال الشهور الماضية للحرب وتحديدا منذ منتصف العام الماضي اضطرت معظم المنظمات الإنسانية والبعثات الدبلوماسية إما للانتقال إلى مدينة بورتسودان حيث تعمل المؤسسات الحكومية حاليا أو الخروج من السودان نهائيا، ما قلل حجم المساعدات التي يتلقاها المدنيون.
وتفاقمت الأزمة أكثر في نوفمبر الماضي نتيجة التضييق الحكومي على المنظمات الإنسانية بعد تحديد السلطات معابر محدده لدخول المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة أو عبر الحدود المصرية، ما عرقل عمل كثير من المنظمات الدولية الإغاثية التي أعلنت أنها تواجه صعوبات في توصيل المعونات الغذائية، في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة.
لكن الأزمة اليوم تبدو وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في ظل التوقعات التي تحذر من تفاقمها جراء موسم الجفاف الذي يبدأ في مايو المقبل، والذي تنخفض فيه معدلات الأمن الغذائي في الظروف العادية بالسودان إلى أدنى معدلاتها بما يجعل حدوث المجاعة أمرا واقعا.
هذا الأمر الذي أفصح عنه منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفت مؤخرا بدعوته إلى تدخل دولي عاجل لمنع تدهور الوضع من خلال إدخال مزيد من المواد الغذائية وكذلك البذور لزراعتها للموسم المقبل.
وعلى أن السودان يتملك أكبر أراضي خصبة في القارة الأفريقية بحوالي 180 مليون فدان صالحة للزراعة، إلا أنه سيواجه بلا شك شبح الجوع بعد أن أدت الحرب إلى انهيار نظام التمويل الزراعي الذي أفقد السودانيين فرصة تأمين الغذاء للشهور القادمة من العام الجاري، نتيجة عدم استغلال تلك المساحات بالشكل المناسب واحتمالات خروج مساحات كبيرة من مشاريع النيل الأبيض ومشروع الجزيرة وهو أكبر مشروع زراعي في البلاد عن دائرة الإنتاج بصورة كلية.
مشكلات كبيرة
طوال الفترة الماضية ظل ملف المساعدات الإنسانية من الملفات الساخنة بين السلطات السودانية ممثلة بمجلس السيادة الانتقالي وقوات الدعم السريع، ولم تفض جهود “منبر جدة” في السابق إلى حلحلته رغم التزام أطراف الصراع بتنسيق جهود بتسهيل إجراءات تدفق المساعدات.
وأدى تعثر برنامج الغذاء العالمي وعدد من المنظمات الدولية العاملة في الحقل الإنساني في إيجاد سبل للوصول إلى المحتاجين، إلى تحرك متأخر من قبل الحكومة السودانية عبر اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والتي حددت منافذ يُسمح من خلالها بدخول المساعدات الإنسانية، كما أبلغت الخرطوم الأمم المتحدة موافقتها على تحديد المزيد من المعابر لدخول المساعدات الإنسانية إلى دارفور عبر تشاد للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بعد اتفاق تم بين الحكومتين السودانية والتشادية على الجوانب الفنية.
لكن هذه الخطوة بدت متأخرة كثيرا، وبدت أيضا وكأنها خطوة استباقية للقرار الأممي الذي صدر في 8 مارس الجاري بشأن هدنة رمضان.
ومع ذلك يمكن إن تشكل هذه الخطوة نافذة أمل لملايين الجوعى في معسكرات النازحين في إقليمي دارفور وكردفان، والمناطق الأخرى التي تعاني نقصا حادا في الغذاء بسبب الحرب التي هددت الأمن الغذائي لنحو ثلثي السكان.
والتقارير التي تتحدث عن عرقلة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع دخول المساعدات الإنسانية لم تكن في الواقع سوى جانب من المشكلة، بعد أن أعلنت الأمم المتحدة عدم كفاية الدعم الدولي اللازم لتأمين هذه المساعدات ووصولها إلى السودان في ظل النقص الكبير في التمويل يبلغ نحو 70 % من المبلغ الفعلي المطلوب والمقدر بنحو 4 مليارات دولار.
يشار في ذلك إلى أن كل الجهود التي بذلت منذ اندلاع الحرب في أبريل العام الماضي عبر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) وشركائه لم تغطى سوى 8 ملايين نسمة، وهو عدد يقل كثيرا عن عدد السودانيين المحتاجين لمساعدات إغاثية عاجلة.
هذا الأمر دعا منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى دعوة دول العالم إلى التوقف عن غض النظر عن الكارثة التي أحدثتها الحرب الأهلية الدائرة منذ عشرة شهور في ظل التقديرات التي تؤكد أن أكثر من 700 ألف طفل سيعانون على الأرجح من أكثر أشكال سوء التغذية المسببة للوفاة خلال هذا العام.
بانتظار كارثة
المشهد القاتم المتوقع للأزمة الإنسانية خلال الشهور القامة قد يفتح الطريق لقرار أممي يصدر تحت الفصل السابع بعد أن فشل القرار غير الملزم الذي صدر قبل رمضان تحت الفصل السادس لهدنة مؤقتة في رمضان تتيح دخول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، غير أن قرار مثل هذا قد يفتح على السودان أبواب الجحيم في ظل الأوضاع الاقتصادية والعسكرية القائمة اليوم.
والمتأمل في تصريحات المسؤولين الأمميين والدوليين تجاه الأزمة في السودان سيجد أن جميعها تؤشر إلى أن العالم قد استنفذ كل خياراته، بعد الفشل الذريع الذي منيت به مقررات “منبر جدة” وانهيار جهود البعثة الأممية وأخيرا انهيار قرار مجلس الأمن الأخير بشأن هدنة رمضان، ما قد يجعل أي تحرك دولي أو أممي تجاه الأزمة غير بعيد عن التزامات الفصل السابع.
في ظل سيناريو كهذا لن يستطيع الاقتصاد السوداني المترنح على حافة الهاوية الصمود، في ظل خسائر سنوية تقدر بنحو 5.4 مليار دولار سنويا، ولن يكون هناك مجال للحديث عن شرعية وانقلاب بل سيتم التعامل مع جميع الأطراف بوصفهم متسببين بشكل مباشر في أكبر أزمة إنسانية تشهدها القارة الأفريقية.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أهمية أن يعي السودانيون سريعا مخاطر إخضاع ملف المساعدات الإنسانية للمزايدات والحسابات السياسية والعسكرية، وعليهم إدارك أن مسار “منبر جدة” الذي شدد على توفير الحماية للمدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي ومعاهدات حقوق الإنسان، وعدم إقحام المدنيين في الصراعات المسلحة هو الخيار الأفضل اليوم لتلافي أزمة انهيار وشيكة.