الفكر الاستعماري.. مصادرة الحريات والثروات

طاهر محمد الجنيد

كان الاستعمار القديم يرسل جنوده ويحتل البلدان ويستولي على ثرواتها ويصادر استقلالها، لكنه اليوم تطور واستعاض عن ذلك بتنصيب الخونة والعملاء الذين يعملون لصالحه على حساب المصالح الوطنية، مقابل ضمان استمرارهم وبقائهم في السلطة، وفي مقارنة السلوك الاستعماري اطلعت على تقرير عن الاستعمار الفرنسي للقارة الإفريقية، وسنقارن بين الاستعمار الأمريكي لدول الخليج والعراق وسوريا وكل المناطق التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، فقد استعمرت فرنسا أكثر من نصف دول قارة إفريقيا بشكل مباشر وجعلت شعوبها عبيدا واستعانت بهم في كل حروبها الاستعمارية ووصل إجمالي من باعتهم كعبيد في سوق النخاسة العالمية إلى أكثر من خمسة ملايين وثلاثمائة ألفاً، وأمريكا أبادت الهنود الحمر واستعانت بالعبيد في بناء أمريكا وحتى الذين استعانت بهم عاملتهم كعبيد ولم يتم تحريرهم إلا في السنوات الأخيرة.
الجزائر في سعيه لنيل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي ضحى بأكثر من مليون ونصف المليون شهيد وحينما بدأت حركات التحرر الوطنية غيَّر الاستعمار أسلوبه بعد فشل الإخضاع العسكري إلى منح الاستقلال الوهمي من خلال اتفاقيات التعاون التي تضمن استمرار المصالح وضمانها ولكن من خلال الحماية الوطنية، والتدخل العسكري إذا لم تستطع الحماية الوطنية ذلك ومن أهم بنود هذه الاتفاقيات: 1- فرض اللغة الفرنسية لغة رسمية لتلك البلدان، صحيح أنهم أفارقة لكن الثقافة واللغة لفرنسا وحدها. 2- السماح للقوات الفرنسية بالتواجد والتدخل العسكري- مما يعني أن السيطرة والتحكم مازال لهم لا لغيرهم وهو ذاته الأسلوب الذي تأخذ به أمريكا من خلال قواعدها الموزعة والمنتشرة في كل دول الخليج وسوريا والعراق وألمانيا واليابان وتركيا، أما إسرائيل فهي القاعدة المتقدمة ومخازن الأسلحة الاستراتيجية لمواجهة أي طارئ قد يحدث بعد انحسار التواجد الأمريكي بعد هزيمة فيتنام. 3- تقييد التجارة بين الدول الإفريقية بعضها البعض، وهو ذاته يسري على العلاقات الأمريكية العربية الموحدة، التي تمارس كل جهودها لمنع إنشاء السوق العربية المشتركة والعملة العربية، وحينما نادى رئيس الوزراء التركي المرحوم نجم الدين اريكان بتأسيس السوق الإسلامية والعملة المشتركة التي تجمع أكبر القوى الإسلامية والعربية، لم يستمر حكمه بعدها سوى ثلاثة أشهر، حيث تمت الإطاحة به في انقلاب عسكري والزج به في السجن وحل حزبه الذي حصل على المرتبة الأولى في انتخابات حرة ونزيهة.
السيطرة العسكرية والاقتصادية
عندما تكون هناك قواعد عسكرية في أي دولة، فلا يمكن الحديث عن الاستقلال، لأن المندوب العسكري هو الذي يدير الأمور ويعين من يشاء ويعزل من يشاء، وهنا يشير التقرير إلى أن فرنسا أعطت الاستقلال الوهمي المزيف لأكثر من اثنتي عشرة دولة واحتفظت باتفاقيات مع (14) أخرى، لكنها تعزل وتقصي كل من يخرج عن سياستها وحماية مصالحها وهو ذاته الأسلوب الذي تمارسه أمريكا فهي وصية على دول الخليج والعراق وضمت إليها سوريا، حيث سيطرت على المناطق التي تتواجد فيها الثروات النفطية وغيرها بدعوى مكافحة الجماعات الإرهابية التي هي من صنعها وإنتاجها وتخدم مصالحها وتوجهات الكيان الصهيوني الممثل والمكون الأساسي للسياسة الصهيونية والحلف الصليبي الذي يعمل على تحطيم كل إمكانيات النهوض والتوحد.
لقد أنشأت شبكة استخبارات في تلك الدول سواء التي أعطتها الاستقلال الوهمي والتي عملت اتفاقيات تعاون مشترك، بحيث تضمن تأمين مصالحها والاستيلاء على الثروات، وخلال السنوات ما بعد الاستقلال الوهمي حتى الآن قامت بأكثر من (67) انقلابا على السلطة في (26) دولة، منها (16) دولة مستقلة، وقمعت بالقوة كل حريات التحرير والحركات المعارضة لها، بتدخل عسكري مباشر أو بواسطة القوات المتواجدة هناك، وهو ذات الأمر الذي تمارسه أمريكا مع من يسمون أنهم حلفاؤها، وأبرز مثال على ذلك تصريح الرئيس الأمريكي السابق ترامب أنه على زعماء الخليج أن يدفعوا مقابل الحماية لهم، فلولا وجود القوات الأمريكية لتمت الإطاحة بهم في أقل من أسبوع، ولذلك فإن صفقات السلاح لا تنتهي وستستمر حتى ولو لم يكونوا بحاجة إليها، فتظل في المستودعات حتى يصيبها العطب ما لم يكن هناك عدوان على شعب شقيق أو جار صديق، أما العدو فقد أصبحوا جميعا في خندق واحد، وأصبحت المصلحة واحدة، والعدو هم الأشقاء والمناهضون لسياسة الحلف الصليبي الجديد.
وحينما تعجز شبكة الاستخبارات المحلية عن القيام بدورها في قمع الحركات المناهضة في تلك البلدان ذات الاستقلال الوهمي والتبعية والهيمنة الأساسية للاستعمار الفرنسي، فإن التدخل والغزو المباشر هو الحل، فلا أحد يستطيع أن يعترض ولا يسمح لمن يعترض وهكذا تم تحويل القارة السمراء من الإسلام إلى المسيحية بتلك المجهودات النشطة التي تمارسها الكنيسة وبفعل التفريط العربي والإسلامي لها وعدم مواجهة الاستعمار بأدواته القذرة، حيث جعل القارة من أفقر الشعوب والبلدان بجعلها تابعة دينيا ومذهبيا بعد أن سيطر على كل ثرواتها وخيراتها.
وإذا كان الاستعمار الفرنسي استعماراً يستولي على الخيرات ويحول الناس عن دينهم، فهو يعمل على نشر الالحاد والتنصير في آن معا، فإن الاستعمار الأمريكي ينشر الانحلال والفسخ والالحاد، فقد رأيناه يدعم حركات الشواذ والمثليين في عموم العالم ويركز بشكل خاص على البلدان الخاضعة لنفوذه وطاعته، ولذلك فهو يحارب كل القيم والمبادئ ويعمل على تحطيم الأخلاق حتى يسهل عليه السيطرة والتوسع.
لقد أنشأ شبكات الحماية واعتمد لها ميزانيات وألزم الحكومات والأنظمة العميلة في المنطقة بالعمل على تغيير المناهج ومحاربة كل القنوات التوعوية والتضييق على العلماء والدعاة، فإما أن يعملوا ويفتوا بإباحة كل المحرمات من خمر وقمار وحفلات ماجنة وتحليل الرباء وغير ذلك، وإما فالسجن والعقاب جاهز، وكل هذا من أجل تحطيم الركائز التي تحمي المجتمع والنظام من السقوط والانهيار حتى يسهل السيطرة على الأنظمة والحكام والشعوب.
وأما الجيش فإن السيطرة على مراكز القوة والقيادة فيه كفيلة بتحويل دوره وهدفه إلى حيث جعله عالة على الشعوب لا حارسا أمينا على الإنجازات وأولها الحريات والثروات وغيرها من الكليات الخمس التي أكد الإسلام على حمايتها سواء من قبل الدولة أو من قبل الأفراد وهو (الدين- والعقل- والنسل- والمال والنفس)، وإذا كانت فرنسا تكسب ما بين (500-400) مليار دولار سنويا من أفقر قارات العالم، فكم تكسب أمريكا من أغنى شعوب العالم؟ وهو ما يتناوله الاستعمار الاقتصادي الذي سنتحدث عنه لاحقا.

قد يعجبك ايضا