عن نسيان التاريخ وقبر مصادر الوعي

يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد

 

لا يمكن للتنظيمات الاستخبارية أن تعيش وضعاً منظماً ومستقراً، فهي تمل ذلك، كما قد تتقاطع المصالح والغايات، فكل أفراد وقادات التنظيمات على وجه الخصوص لهم أهداف ذاتية بغض النظر عن الإسلام وفكرة الجهاد، ولذلك فالصراع ليس اختلافا فكريا أو تضادا في المنهج، فالتناغم قائم في الفكر والمنهج عند الوهابية السلفية، ولم يشهد التاريخ نزاعا أو صراعا عندهم، ومن هنا يمكن أن يقال أن الصراع المسلح والصراع الفكري في اليمن بين التنظيمات الإرهابية له أهداف فردية تخص قادته، وهي أهداف دنيوية، وأهداف استخبارية تخص الجهاز الاستخباري الذي يوظف الجماعة، فكل تنظيم يرتبط بجهاز استخباري يختلف عن الآخر، فالقاعدة ترتبط بالجهاز الاستخباري الأمريكي “سي آي أي” وداعش ترتبط بالموساد الإسرائيلي، ولذلك تختلف الطرق والوسائل لكلا التنظيمين، فهدف أمريكا هو تفتيت الأمة العربية والإسلامية تدريجيا على أسس ما قبل الأمة والدولة الوطنية تسهيلا للسيطرة عليها، فأمريكا وصلت إلى مرحلة شيخوخة نظامها الرأسمالي الذي أصبح عاجزا عن توفير احتياجات إمبراطوريته ولكي تواصل هيمنتها على العالم يجب أن تبقى مسيطرة على الموارد والمنافذ وخطوط الملاحة، ومالم تتشرذم الأمم وتتفاقم ازمتها البنيوية فلن تستطيع الاستمرار وذلك ما توحي به الوثائق والدراسات الأمريكية، أما إسرائيل فلها أهدافها التي ترتبط ببعض معتقداتها وتصوراتها الذهنية والعقائدية عن المستقبل، ففي العقيدة اليهودية القديمة والحديثة هناك حسابات لنبوءات مذكورة في التوراة لزمن آخر جيل يهودي وآخر دولة لإسرائيل وهي الدولة التي سيقيمها المخلص في القدس ويحكم بها العالم – وبحسب معتقداتهم ووفقا لما هو منشور عن تلك الحسابات والنبوءات – فإن هذه الفترة الزمنية المعاشة قد اكتمل ظهور العلامات وتطابقت الأرقام لزمن ظهور المخلص بحسب ما هو مذكور في التوراة والتلمود اليهودي .
وللتسريع في خروج مخلصهم “الدجال ” فإن عليهم تمهيد الأرض وتهيئة البلدان من خلال إحداث فوضى عارمة تمكنهم من تحقيق أهدافهم .
استخدمت داعش – ولا زالت – مهارات التنمية البشرية في السيطرة على العقول وغسل الأدمغة لتكوين مجاميع بشرية متوحشة قادرة على سفك الدماء بطرق وحشية، وذلك من منطلق اعتقادهم بأن عمليات الذبح والسحل والحرق واستخدام أساليب بشعة للقتل هي من ستسرع في خروج مخلصهم الذي سوف يحكم العالم.
لقد دلت حركة الواقع على البعد النظري والعقدي، ولذلك لا يمكن السيطرة على المستقبل مالم نتمكن من فهم حركة الواقع وأبعادها النفسية والثقافية والسياسية.
ففي كتابه ” الشرق الأوسط الجديد ” – والذي يعد بمثابة استراتيجية طويلة المدى لليهود- يقول شمعون بريز: “على العرب نسيان تاريخهم وقبر ذاكرتهم ومصادر وعيهم فهم خليط غير متجانس ولا يربطهم رابط ” والوقوف عند حدود العبارة ودلالتها النفسية والثقافية والسياسية يفسر لنا الحال الذي وصل إليه العرب بعد أن وضعت الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية أوزارها مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، بعدها نشطت حركة اغتيالات لرموز تنويرية في الوطن العربي كانت لهم فتوحات وإضاءات في سياق الفكر العربي، لكن تم وأد تلك المشاريع بطرق شتى، منها تنمية الوعي التكفيري، وتنشيط الخلايا الإرهابية، وتفعيل دور الجماعات المرتبطة بالأجهزة الاستخبارية العالمية مثل القاعدة ومثل الهجرة والتكفير ومثل القطبيين وغيرهم كثر انتشروا في كل بقاع الأرض بسرعة البرق وكان نشاطهم يشمل المغرب العربي مثل الجزائر التي جاسوا خلال ديارها وأكثروا فيها الفساد والقرن الأفريقي والجزيرة العربية واليمن ومصر .
ذلك النشاط المحموم لم يكن يقظة وما كان صحوة إسلامية بل كان نشاطا استخباريا يهدف إلى وأد مصادر الوعي عند العرب والمسلمين حتى يتمكن اليهود من بسط ثنائية الهيمنة والخضوع تحقيقاً لوعد يجدونه في كتبهم في بسط النفوذ على أرض الميعاد.
كانت الجماعات تعلن عن نفسها في ظرف أيام وتبسط نفوذها على مساحات واسعة وعلى مدن وقرى بقضها وقضيضها وتعجز الأنظمة عن مواجهتها والحد من الفوضى التي تشيع في الناس والمجتمعات جراء نشاط تلك الجماعات الصغيرة، فهل كان التمكين لها بالتواطؤ مع الأنظمة؟ ربما.. وربما لا، وقد تكشف لنا الأيام خفايا نجهلها اليوم، لكن السؤال المهم: لماذا كانت تلك الجماعات تختفي فجأة وتظهر فجأة؟ أليس ذلك دليلا كافيا على ارتباطها بأجهزة الاستخبارات العالمية، فهي تنفذ ما يملى عليها متى كانت الضرورة السياسية تستوجب ذلك، وتختفي متى كانت الضرورة تفرض ذلك، فالمصالح هي من يدير النشاط وليس شرع الله الذي يتشدقون به ولا مقاصده.
لعل الهدف الأبرز لتلك الجماعات هو وأد مصادر الوعي وتعويم المصطلحات والمفاهيم ليغدو الإنسان في تيه وشتات وضياع، وهو ما نراه اليوم ماثلا أمامنا، فالحر في مفهوم البعض عبد، والعبد حر، وصنعاء محتلة ولا بد من تحريرها، وعدن التي يحتلها شذاذ الآفاق من كل مكان ويُكثرون فيها الفساد تحررت، والوطني المنتمي إلى بلاده والذي يقف في صفوف المدافعين عنها ضد الغزاة والمحتلين ويأبى هوانها وذلها عميل وخائن، والعميل الخائن الذي باع عرضه وأرضه بثمن بخس وسكن في الفنادق وارتاد البارات والحانات وسلم سيادة أرضه للمحتل كي ينشئ السجون ويمارس أنواع التعذيب وأصنافه، ويصادر تاريخها ومقدراتها الحضارية والطبيعة ويتحكم في شؤونها وفي رئيسها ويرفض أن تهبط طائراتهم في مطارات بلادهم، مثل هذا في نظرهم وطني شريف.
هذا الوأد والتعويم والتيه استراتيجية يهودية تحدث عنها شمعون بريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد ” الذي شكل منهجا وطريقا واضحا يسلكه اليهود للوصول لأرض الميعاد التي يجدونها في كتبهم ويحلمون بها.
لقد أصبح الواقع ومعطياته أكثر وضوحا من ذي قبل، وتبين للناس الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يبق إلا من كان مكابرا أو مجادلا بالباطل ليدحض به الحق ولن يطمس ضوء الشمس التي أفصحت عن نورها دون عوج ولا أمتا، ولذلك يؤكد قائد الثورة في جل خطاباته على مصطلحين مهمين هما: الوعي والأخلاق، فبهما وحدهما نستطيع مقاومة مشروع الفناء والإلغاء الصهيوأمريكي لنا.
مصادرة الوعي قضية مهمة عند اليهود كعدو ينال منا ويسعى لفساد حيواتنا، وعودة الوعي وتنميته قضية مهمة بالنسبة لنا حتى نتمكن من تحقيق المعادل الوجودي لنا في الحياة في صراعنا المستمر مع شرور يهوذا التي لم ولن تقف عند حد.

قد يعجبك ايضا