أوراق السباق الانتخابي تقسم الشارع الأمريكي: أزمة تكساس.. هل تقود الولايات المتحدة إلى حرب أهلية

على أن البعض يعتبر التداعيات الخطيرة لأزمة المهاجرين غير الشرعيين بين ولاية تكساس والحكومة الفيدرالية الأمريكية تحمل الكثير من البروبغاندا السياسية إلا أن التحذيرات والمخاوف من احتمالات تطورها إلى أزمة نزاع داخلي تبدو واردة في هذا التوقيت الذي يحشد فيه الحزبان الجمهوري والديمقراطي قدراتهما لخوض السباق الانتخابي الرئاسي المقرر في نوفمبر المقبل.

الثورة/ أبو بكر عبدالله

 

لم يحدث أن عصفت أزمة داخلية بالولايات المتحدة مثل الأزمة الدائرة حاليا بين الحكومة الفيدرالية وولاية تكساس حول ملف الهجرة غير الشرعية، فهي جاءت في توقيت حرج يخوض فيه الحزبان الجمهوري والديموقراطي ماراثون سباق انتخابي محموم حوّل ملف الهجرة غير الشرعية من أزمة قانونية إلى مواجهة مصيرية قد تمثل في لحظة ما بداية تساقط أحجار الدومينو.
يأتي ذلك بعد أن نحت الأزمة منحى خطيرا عقب تصاعد التوتر بين سلطة ولاية تكساس والحكومة الفيدرالية أدى إلى رفع الأولى علم الاستقلال كخيار مطروح نحو الانفصال عن الولايات المتحدة بعد نشرها قوات الحرس الوطني على حدودها لمنع قوات الحكومة الفيدرالية من الدخول اليها لتنفيذ امر قضائي أصدرته المحكمة العليا الأمريكية بإزالة أسلاك شائكة وضعتها سلطة ولاية تكساس على حدودها مع المكسيك.
وإجراءات نشر قوات الحرس الوطني والتمرد على قرارات السلطة الفيدرالية لم jكن تلويحا سياسيا بل خيار أعلنه حاكم ولاية تكساس الجمهوري غريغ أبوت الذي تحدى الحكومة الفيدرالية برفض تنفيذ أمر المحكمة العليا بالتزامن مع إعلان نائب الحاكم دان باتريك دعمه لحق ولاية تكساس في الاستقلال والحرية “بعيدا عن الاحتلال الأمريكي لها”.
وحتى اليوم ثمة انقسام في الشارع الأمريكي بين من يرى أن الأزمة ليست سوى خلاف قانوني حول السلطات الممنوحة للجهتين بموجب الدستور الأمريكي ومن يتحمل مسؤولية حماية حدود البلاد ومن يراها أزمة عميقة تحمل بذور صراع داخلي مرشح للانفجار بعد تحريك كلا الجانبين قواتهما العسكرية على الأرض بصورة لم تحدث منذ الحرب الأهلية الأمريكية.
هذه التداعيات اشاعت المخاوف في ظل تصاعد شعبية الجماعات المتطرفة التي تطالب بانفصال ولاية تكساس الجنوبية عن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن وفرت معطيات الصراع السياسي المحتدم في هذه الولاية بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي فرصا كثيرة لتأجيج الصراع في هذه الولاية الجمهورية بصورة تقودها إلى إعلان الاستقلال.
وأكثر من ذلك نقل بذور الصراع إلى الولايات الجمهورية الأخرى التي تؤيد الخطاب الجمهوري المتطرف في الكثير من القضايا وفي المقدمة قضية الهجرة غير الشرعية وسياسات أمن الحدود.
خلاف قانوني
لوقت طويل ظلت أزمة المهاجرين تدور في نطاق الخلاف القانوني بشأن كيفية إدارة أمن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة والسياسات المثالية في تأمينها والحد من عمليات التدفق غير الشرعي للمهاجرين حيث أعتمد الرئيس جو بايدن وحزبه الديموقراطي سياسية “الباب المفتوح” بينما انتهجت سلطات ولاية تكساس سياسة صارمة في تأمين الحدود ومنع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد.
لكن الأزمة أخذت ابعادا سياسية مع تصاعد تجاذبات الموسم الانتخابي بين الديمقراطيين والجمهوريين في ظل محاولات محمومة لاستثمار هذه القضية لتسجيل نقاط سياسية بعد أن صار ملف الهجرة من أهم الملفات الساخنة في ماراثون السباق الانتخابي على المكتب البيضاوي.
والخلاف بشأن هذه القضية تفجر منذ بداية ولاية الرئيس بايدن الذي أوقف مشروع سلفه دونالد ترامب في بناء الجدار العازل مع المكسيك.
وعادت تفاعلات القضية في مارس 2021 عندما دفع العدد المتزايد للمهاجرين غير الشرعيين من المكسيك نحو تكساس حاكم الولاية إلى نشر عناصر من الحرس الوطني لتعزيز أمن الحدود ونصب جدران من الأسلاك الشائكة، استمرت على حالها حتى منتصف العام 2023 حيث قامت دورية تابعة للحكومة الفيدرالية بإزالتها ما قاد حاكم الولاية إلى رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية التي أصدرت تاليا حكما ايد إجراءات الحكومة الفيدرالية بإزالة الأسلاك الشائكة على الحدود بين تكساس والمكسيك.
لكن رفض سلطات ولاية تكساس تنفيذ الحكم أشعل أزمة سياسية مع الحزب الجمهوري، دعت الرئيس بايدن إلى إرسال قوات فيدرالية لتنفيذ الحكم، قبل أن تمنعها قوات الحرس الوطني للولاية ما أدى إلى فرض الرئيس بايدن عقوبات على الولاية بسبب رفضها تنفيذ قرار المحكمة.
ولكون الولاية جمهورية في الأساس فقد اعتبر الرئيس بايدن الإجراءات التي اتخذتها سلطة تكساس تحديا لإدارته والقانون الفيدرالي، محذرا من إمكانية استخدام القوة لتنفيذ الحكم ما دعا أكثر الولايات الجمهورية إلى إعلان دعمها لولاية تكساس والمشاركة في الدفاع عنها بإرسال قوات عسكرية اليها لمواجهة قوات الحكومة الفيدرالية.
توتر عسكري
لم يكن البعد القانوني الوحيد في معادلة الصراع حول ملف المهاجرين، فبعد أن تولى الرئيس بايدن الحكم ألغى جميع إجراءات سلفه الجمهوري دونالد ترامب حول سياسة الهجرة وأمن الحدود في تداعيات ظلت تتفاعل بداخل الحزبين الجمهوري والديموقراطي وخلفت انقساما حادا بداخل الكونغرس الأمريكي.
والعودة القوية لهذه القضية في مطلع العام 2024 القريب من موعد الانتخابات الرئاسية نقلت الخلاف القانوني المستجد إلى صراع سياسي كبير، مع توجيه الرئيس السابق دونالد ترامب نداء دعا فيه جميع الولايات إلى إرسال قوات حرسها الوطني إلى حدود تكساس، لمنع دخول المهاجرين غير النظاميين وإعادتهم عبر الحدود وسط مطالبات من الزعماء الديمقراطيين دعت إدارة بايدن إلى إضفاء الطابع الفدرالي على الحرس الوطني في تكساس من أجل منعه من وضع المزيد من الأسلاك الشائكة..
وقد استجاب لنداء ترامب 10 ولايات جمهورية بصورة فورية حيث أعلنوا إرسال قوات من الحرس الوطني إلى تكساس لمواجهة قوات الحكومة الفيدرالية ولحقتها 15 ولاية أخرى متحدين المهلة التي حددها الرئيس بايدن لحاكم تكساس تنفيذ حكم المحكمة العليا.
بعد انقضاء المهلة أرسلت الحكومة الفيدرالية قوات ضاربة إلى حدود الولاية شملت مئات المركبات والآليات العسكرية القتالية ومدافع الهاوتزر ذاتية الدفع كجزء من الاستعداد للتدخل العسكري الفيدرالي المحتمل.
تزامن ذلك مع نشر حاكم تكساس قوات الحرس الوطني في الشوارع، استعدادا للمواجهة مع القوات الفيدرالية ما أشعل أجواء حرب شرع فيها سكان العديد من الولايات في تخزين الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية ومستلزمات الإسعافات الأولية، وحفر خنادق ومخابئ تحت الأرض بعد إعلان ناري لحاكم ولاية تكساس قال فيه ” مستعدون لحرب أهلية مع إدارة بايدن”.
هذا المستوى المرتفع من التجاذبات السياسية رفع وتيرة القلق الشعبي من احتمال اندلاع نزاع أهلي أوسع، حتى صارت احتمالات اندلاع حرب أهلية عنوانا رئيسيا في أكثر الصحف الأمريكية.
ولم تكن هذه التداعيات بعيدة عن حمى التنافس بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري بشأن الانتخابات الرئاسية كما لم تكن بعيدة عن حالة التوتر التي خلفتها الدعاوى القضائية المرفوعة على الرئيس السابق دونالد ترامب لعرقلته في خوض السباق الانتخابي على الكرسي الرئاسي وهو الصراع الذي استغرق وقتا طويلا وقسم الشارع الأمريكي إلى قسمين.
سيناريو الانفصال
رغم محاولة الروايات الأمريكية الرسمية جعل أزمة تكساس قانونية وتقنية، بين البيت الأبيض والحاكم الجمهوري لتكساس، إلا أن عوامل أخرى برزت إلى سطح الأزمة استدعت رؤى الجناح الجمهوري المتطرف في ولاية تكساس بشأن الولايات الغنية والفقيرة والتساؤلات التي تدور في أروقة سياسية رفيعة عن السبب الذي يرغم الولايات الغنية تحمل أعباء الولايات الفقيرة.
تجليات هذه الرؤى ظهرت إلى السطح بالمطالب الداعية إلى استقلال ولاية تكساس التي تعتبر ثاني أكبر ولاية أمريكية من حيث الناتج المحلي الإجمالي بعد كاليفورنيا، وواحدة من أهم الولايات ذات التأثير الزراعي والمالي، والصناعي والتجاري، ناهيك عن كونها من أهم مناطق إنتاج النفط في الولايات المتحدة.
والتقديرات التي يتداولها اليمين الجمهوري تشير إلى أنه حال تحقق سيناريو انفصال تكساس عن الولايات المتحدة فسوف تكون هذه الولاية ثامن أكبر اقتصاد في العالم، ناهيك عن أن انفصال الولاية عن الاتحاد الفيدرالي سيضع حدا نهائيا للأزمات التي تعانيها الولاية من جراء التدفق الكبير للمهاجرين من المكسيك والذين يصل عددهم في اليوم الواحد إلى نحو 10 آلاف مهاجر.
وما زاد من وتيرة هذه المطالب أنه ليس هناك في دستور الولايات المتحدة ما يمنع تكساس أو أي ولاية أمريكية أخرى من الانفصال عن الاتحاد، رغم أن هذه الفكرة انتهت كليا بعد الحرب الأهلية عام 1865 باعتبار أن انتصار الاتحاد كان شكلاً بحد ذاته قانونا يمنع أي ولاية من الانفصال.
سيناريوهات مفتوحة
رغم التعقيدات الخطيرة التي طرأت مؤخرا على ملف أزمة المهاجرين غير الشرعيين، إلا أن القول بأن هذه الأزمة قد تقود الولايات المتحدة نحو حرب أهلية في الوقت الراهن ليس سوى ضرب من الخيال، في حين أن توصيف الأزمة بأنها صغيرة وقد تنتهي فورا في حال تراجع الرئيس بايدن عن مواقفه والتوجه نحو التهدئة يبقى أيضا ضربا من الخيال.
ذلك أن الأزمة الحاصلة اليوم تُخفي بين جنباتها بذور صراع عميق يتكابر كل يوم وقد يهدد في المستقبل منظومة التماسك الاجتماعي وقيم الإيمان بالوحدة العضوية التي قام عليها بنيان الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلانها قبل أكثر من قرن ونصف.
والمؤكد أن هذه الأزمة سيكون لها تداعيات سياسية واجتماعية على الداخل الأمريكي في ظل النزعات القومية المتزايدة نحو الانفصال للاستحواذ على الثروة من قبل سكان الولايات الغنية وهي الدعوات التي تحظى بتأييد كبير من قبل جمهور واسع صار يُعبّر عنها بوضوح في وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى المستوى السياسي، فإن التقديرات التي تُرجح عدم إقدام الرئيس بايدن على خطوة تصعيدية مع الحرس الوطني في تكساس والولايات المتحالفة معها، فإن التراجع عن الإجراءات التي شرع فيها بنشر قوات عسكرية فيدرالية هناك لتنفيذ حكم المحكمة العليا بالقوة، سيقود إلى تآكل في القاعدة الانتخابية للحزب الديموقراطي على حساب تزايد شعبية الرؤى المتطرفة للجمهوريين، بما قد ينعكس على كثير من السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا.
والأكثر من ذلك أن فشل الحكومة الفيدرالية في استخدام القوة العسكرية لفرض القانون سيشكل سابقة قد تشجع العديد من الولايات على مواجهة الحكومة الفيدرالية وفرض خياراتها في كثير من القضايا الخلافية.
وهذا لأمر يبدو مرشحا للتصاعد بعد انتخابات نوفمبر القادم في ظل الخلافات العميقة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وقد يفتح المجال لاستخدامه كتكتيك من قبل الجانب الخاسر للانتخابات في أي ولاية من ولايات الاتحاد ما قد يشكل أكبر تهديد ستواجهه الولايات المتحدة في المستقبل القريب.

قد يعجبك ايضا