الثورة/ عبدالباسط النوعة
يتنوع الموروث الثقافي والحضاري في بلادنا ، و يمتاز بعراقة وثراء وفرادة هذا التنوع الذي يشكل في مجمله قيمة أصيلة لشعبٍ جذوره ضاربة في أعماق التاريخ.
وعلى الرغم اننا وخلال السنوات الماضية حاولنا إبراز ما تيسر لنا من معالم ومقومات اليمن السعيد الحضارية والتاريخية والتراث بشقيه المادي والشفهي، عبر هذا الصحيفة الرائدة، إلا أننا لازلنا نكتشف أننا لم نحط علما وافيا بمقومات ومعالم هذا البلد القادمة من عصور وأزمنة غابرة، خاصةً فيما يتعلق بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد التي سنسلط الضوء في هذا الموضوع على واحدة من مجالاته أو مفرداته التي ظلت غائبة عنا طوال السنوات الماضية..
أثناء تواجدنا في محافظة إب ، وجهت لنا دعوة لحضور واحدة من الليالي الثقافية التي اعتاد اليمنيون على إحيائها بأجواء متوارثة كابرا عن كابر ومنذ قرون من الزمن ، تزعزت مكانة هذه الليلة وغابت عن الكثيرين لكن آخرين ظلوا متمسكين بها ماضين على اقتفاء ما اعتاد عليه آباؤهم وأجدادهم ، هذه الليلة يتعارف تسميتها عند أصحابها بـ( الرجبية) بفتح الراء والجيم وكسر الباء ..
“الثورة” حضرت هذه الليلة وعاشت جانبا كبيرا من تفاصيلها المتنوعة التي تمتزج فيها الأهازيج والموشحات والذكر وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والاستغفار وغيرها وتقدم فيها المأكولات الشعبية ، ووجدنا ان جمهور الحاضرين فيها متنوعٌ أيضا من حيث الأعمار وإن كان الغالب عليهم من كبار السن الذين تجاوزت أعمارهم العقدين السادس أو السابع ..
موشحات بمقامات متنوعة
السيد أحمد باعلوي -عضو مجلس الشورى ، الذي كان مستضيفا ومنظما لهذه الليلة ، وهذا دأبه كل عام ورثه عن والده وأجداده ، يقول : هذه الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب وهي الليلة التي أُسري فيها بالرسول الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله ، ويتم إحياؤها كل عام وإحياء أيام أخرى كالربيعية والشعبانية وغيرها ، نعيش فيها أحداثها ووقائعها من أجل استذكارها ووربطها في أذهان الأجيال الناشئة، ونحيي ساعاتها وبالقرآن والأذكار والاستغفار وأهازيج المديح للرسول الكريم وموشحات متعددة المقامات والألحان لا تخلو من العبر والسرد للسيرة النبوية المطهرة ، ولهذا واجهت مثل هذه العادات حملات تشويه وتحريم من تيارات ناشئة ساهمت إلى حد كبير في التأثير على زخمها لكنها لم تستطع طمسها ، فمثلما حرصت على دوام إقامتها واستضافة روادها متوارثا ذلك من الآباء والأجداد ، أحرص أن أُورثها لأبنائي واشد عليهم ليورثونها لأبنائهم ، وإن كانت الصوفية من أكثر التيارات التي ظلت الكثير من أبنائها محافظين على الاحتفاء بالرجبية .
تفاعل كبار السن
بالرغم أننا لم ندرك مظاهر الابتهاج والاحتفاء بهذه الليلة المباركة منذ بدايتها إلا أننا استمتعنا كثيرا فيما تيسر لنا من الوقت مع تلك الفقرات والزخم والتفاعل الكبير خاصةً مع كبار السن ممن توافدوا من مناطق متعددة إلى مكان الاحتفاء بمدينة إب..
تحدثنا إلى أحد كبار السن وهو احمد سعيد عبدالله المليكي القادم من عزلة بلاد المليكي بمديرية العدين للمشاركة في إحياء هذه المناسبة التي اعتاد على إحيائها منذ أن كان طفلا يأخذه والده وبرفقة جده ويجتازون وديانا وجبالا مشيا على الأقدام ومنذ الصباح الباكر ينطلقون إلى منطقة إيوان في مديرية مذيخرة ليكونوا ضيوفا عند والد باعلوي ..
يؤكد المليكي الذي تجاوز عمره (85) عاما ، أنه لا يتذكر أبدا منذ طفولته ان فاتته ( رجبية) دون أن يحييها ضمن موالد جماعية وبكل تفاصيلها المتوارثة عبر الأجيال ، ويشير إلى أنه وبرفقة ولده وحفيده الطفل الصغير جاءوا من مسقط رأسهم إلى مدينة إب ليشهدوا هذه المناسبة السنوية ..
ثلاث مراحل
وعن العادات والتقاليد التي تم توارثها لإحياء الرجبية وتفاصيل إحيائها، يسردها صالح نعمان سعيد عماد ، أحد المشاركين القادمين من عزلة حمير الواقعة في أقصى مديرية مذيخرة ، يقول ( الرجبية تبدأ من ظهيرة يوم السادس والعشرين من شهر رجب ، وتكون على ثلاث مراحل ، المرحلة الأولي ، مائدة الغداء وبعدها تفتتح المراسم أو الفقرات بقراءة الفاتحة تليها قصائد شعرية مدائحية يعقبها التحميدة والاستغفار والتسبيح والأذكار والموشحات متنوعة المقامات والألحان يرافقها ضربات الدف ( الطار) وبعدها تلاوة جماعية لسورة ( يس) والاختتام بالدعاء ومن ثم استراحة ، أما المرحلة الثانية فهي من بعد صلاة العصر ، فيما المرحلة الثالثة تأتي من بعد صلاة العشاء وكلاهما بنفس ترتيب المرحلة الأولى مع اختلاف الموشحات والقصائد مختلفة ، بيد ان المرحلة الثالثة تكون مفتوحة وأطول وأكثر من المرحلتين الأولى والثانية بحيث يمكن أن تستمر حتى وقت السحر ، يتخلل المراحل البخور والضيافة وزخات من العطور لكل الحاضرين، كما يحرص البعض على صيام هذا اليوم ويوم بعده أو قبله ..
موالد متعددة
وبدوره يضيف حسن حاميم المغربي ، أن الفقرات التي تحويها هذه المناسبة تسمى بالموالد، والموالد متنوعة ومتعددة وكثيرة ولكن اكثر الموالد شيوعا في إحياء هذه المناسبة تتمثل في المولد المزغني ومولد العزب ومولد الجوهري ومولد المالكي ومولد الضياء اللامع ..
وأشار المغربي إلى أن فقرات وبرنامج كل مولد مختلفة عن الأخرى من حيث القصائد والموشحات والمقامات لكنها تتشابه في بقية الأشياء ، والقائمين هم من يختارون نوع المولد الذي سيحيون به ( الرجبية) فمثلا مولد المزغني وهو منسوب للشيخ أحمد بن علوان، حسب ارجح الأقوال ، لا يستخدم دائما لان فقراته طويلة وكثيرة وقد تستمر حتى السحر ..
الرجبية تواجه الفكر الوهابي
وعن مدى انتشار أو انحسار الاحتفاء بالرجبية أوضح المغربي ان الفكر الإخواني والسلفي ساهم بشكل كبير في محاربة هذه العادات المتوارثة وحاولوا القضاء عليها بحجة البدعة ، كما فعلوا مع المناسبة الأعظم وهي ذكرى المولد النبوي الشريف ، كون فكرهم القادم من خارج الحدود قائماً على قطع أي روابط لهذه الأمة مع رسولها الكريم ومع كل ما يعزز في النفوس الإيمان والاقتداء بقائد الأمة محمد صلوات الله عليه وعلى آله وبكل أعلام الهدى من آل البيت رضوان الله عليهم … مؤكدا أن إحياء ( الرجبية) بدأت تعود كمناسبة إحتفائية دون مضايقات من قبل أصحاب الأفكار الوهابية بعد انحسار نفوذهم عقب ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر في العام 2014 م …