صفقات المناطق الرمادية تشعل فتيل التوتر: مساعي إثيوبيا لمنفذ بحري هل تقود إلى نزاع إقليمي في القرن الإفريقي
احتمالات توسع التوتر الطارئ بين الصومال واثيوبيا على خلفية مساعي الثانية الحصول على منفذ بجري عبر جمهورية ارض الصومال غير المعترف بها دوليا، تبدو في طريقها للتحول إلى نزاع إقليمي بعد لجوء مقديشو إلى طلب الدعم والمساندة من جمهورية مصر العربية، التي أعلنت وقوفها إلى جانب الصومال على خلفية علاقاتها المتوترة مع اثيوبيا بسبب الخلافات العميقة بين البلدين حول سد النهضة.
الثورة / أبو بكر عبدالله
المشكلات التي تواجه الدولة الصومالية الجديدة سواء في الصراعات السياسية الداخلية وتحديات الإرهاب تبدو مرشحة لجولة نزاع إقليمي أوسع في الاشكال السياسي والقانوني الجديد مع جارتها الكبرى أثيوبيا التي أعلنت عن مذكرة تفاهم لشراء منفذ بحري على البحر الأحمر وخليج عدن من جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها، في خطوة اشعلت حالة توتر غير مسبوقة بين البلدين.
التوتر تصاعد بعد استدعاء أديس أبابا سفيرها لدى الصومال على خلفية إصدار الحكومة الصومالية قانونا يلغي المذكرة المعلنة بين اثيوبيا وصوماليا لاند التي تعتبرها الصومال جزءاً من أراضيها، وهو الموقف الذي صعده الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بوصفه مذكرة التفاهم “تعديا على استقلال الصومال وسيادته قبل أن يتوجه إلى مصر والجامعة العربية طالبا الدعم والمساندة بعد إعلان رئيس وزراء اثيوبيا احتمال اللجوء إلى القوة لتحقيق طموحات بلاده في الحصول على منفذ بحري.
وجمهورية ارض الصومال منطقة شبه صحراوية تقع على ساحل خليج عدن بمساحة تصل إلى 177 ألف كيلومتر مربع، وبعدد سكان يناهز الـ 6 ملايين نسمة، وتتمتع منذ إعلانها الانفصال عن الدولة الصومالية عام 1991 بحكم ذاتي، بعد نزاع مسلح مع الدولة الصومالية اندلع على أسس عرقية عقب الإطاحة بالرئيس الصومالي السابق محمد سياد بري.
من يومها ظلت الجمهورية المنفصلة تبحر في المنطقة الرمادية، إذ لم تحصل على اعتراف من أي دولة من دول العالم، كما لم تحصل على اعتراف من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لكنها ظلت تتمتع بحكم ذاتي بنظام سياسي مستقل ومؤسسات حكومية وعملة خاصة وانتخابات قبل أن تجدد مذكرة التفاهم مع إثيوبيا آمالها في الحصول على اعتراف رسمي من إثيوبيا قد يفتح الطريق لدول إفريقية أخرى تعترف بها كدولة مستقلة.
طموحات اثيوبية
على مدى عقود لم تتوقف الطموحات الأثيوبية الباحثة عن منفذ بحري على البحر الأحمر وخليج عدن يخرجها من طوق العزلة ويقلل تكاليف وصولها إلى طرق الملاحة الدولية، غير أن وتيرة هذه الطموحات زادت في عهد رئيس الوزراء آبي احمد الذي فاجأ الجميع مؤخرا بإعلان مشترك مع الرئيس موسى بيهي عبدي عن مذكرة تفاهم بعد أن كان قد لوح في أكتوبر الماضي باستخدام القوة إن اقتضى الأمر لضمان وصول بلاده إلى خليج عدن والبحر الأحمر باعتبارها قضية وجودية.
وآبي احمد الطامح لإعادة مجد الدولة الأثيوبية بقوة بحرية تضاهي قواتها البرية والجوية، بدا مدركا صعوبة تحقيق طموحاته الاقتصادية والعسكرية في ظل فقدان بلاده الأكثر اكتظاظا بالسكان في القارة الإفريقية لمنافذ بحرية، خصوصا بعد أن فقدت آخر منافذها غداة انفصال إريتريا عنها مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي اضطرها إلى الاعتماد على تسهيلات تمنحها لها جيبوتي لإدارة تجارتها الخارجية مقابل 1.5 مليار دولار سنويا تدفعها للسلطات هناك مقابل استخدام موانئها وبنيتها التحتية الساحلية.
هذه الأهمية عبر عنها بوضوح مكتب آبي أحمد الذي وصف الاتفاق بأنه تاريخي كونه سيحل الضائقة المالية التي تعانيها إثيوبيا بتوفير التكاليف التي تدفعها سنويا لجيبوتي، فيما أكد أبي أحمد نفسه في خطاب إلى الشعب أن حصول بلاده على منفذ إلى البحر الأحمر ضروري لإخراج 120 مليون اثيوبي من سجنهم الجغرافي.
وتحقيق هذا الطموح بدا لأديس أبابا متاحا هذه المرة من جانب الطرف الأضعف في المحيط الاثيوبي وهو جمهورية ارض الصومال غير المعترف بها دوليا والخالية من أي قوات عسكرية، وتتشارك مع إثيوبيا بشريط حدودي كبير يجعل من حصولها على منفذ بحري امرا سهلا ودون ثمن سوى إعلان اعترافها بالجمهورية غير المعترف بها دوليا.
مذكرة التفاهم
نصت مذكرة التفاهم المعلنة على استئجار إثيوبيا نحو 20 كيلومترا حول ميناء بربرة على خليج عدن لمدة 50 عاما، بما يتيح لها إمكانية الوصول إلى بحر العرب لتسيير احتياجاتها البحرية والتجارية، في مقابل حصول جمهورية ارض الصومال على اعتراف من جمهورية إثيوبيا كدولة مستقلة- وفق ما أعلن رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي- الذي قال يوماً: إن المذكرة تتضمن بندا ينص على أن إثيوبيا ستعترف بأرض الصومال دولة مستقلة في وقت ما في المستقبل.
وبموجب مذكرة التفاهم ستحصل أرض الصومال أيضا على حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية وهي من اهم الخطوط الجوية الناجحة في القارة الافريقية، في حين يُعتقد أن المذكرة تضمنت كذلك جانبا عسكريا باستئجار جزءا من ساحلها لصالح البحرية الإثيوبية لإنشاء قاعدة عسكرية.
ومذكرة التفاهم المعلنة مؤخرا لم تكن الأولى في المساعي الأثيوبية لتأمين منفذ بحري فقد سبق وأن اشترت عام 2019، حصة قدرها 19 % في ميناء بربرة في صفقة باءت بالفشل وعززت المنافسة بينها والإمارات العربية المتحدة التي استطاعت الحصول على حصة كبيرة من الميناء عبر شركة موانئ دبي العالمية بحوالي 51% مقابل تمويل التطوير المستمر للميناء بنحو 442 مليون دولار، على أن تدير موانئ دبي العالمية الميناء لمدة 30 عاما.
ورغم أن المذكرة كانت أشبه ببيان نوايا، وليس اتفاقا رسميا من الناحية القانونية، إلا أن إعلان أديس ابابا أن ثمة اتفاقاً رسمياً سيوقع بهذا الشأن في غضون الشهور القادمة، آثار مخاوف السلطات الصومالية اشعل معه احتجاجات واسعة شهدتها العاصمة مقديشو حيث نزل عشرات الآلاف إلى الشوارع منددين بالاتفاق ومطالبين بإلغائه.
المخاوف الصومالية
لا يخفي الصوماليون قلقهم من مذكرة التفاهم المعلنة، بما تمثله من تهديد لسيادة الدولة الناشئة التي خرجت للتو من دوامة حروب طويلة، سيما وهي ستُفضي إلى حصول أرض الصومال غير المعترف بها على اعتراف من إثيوبيا ذات النفوذ في المنطقة، قد يقضي كليا على الخطط التي تتبناها الحكومة بإعادة توحيد البلاد وضم الجمهورية المنفصلة إلى الدولة الصومالية التي تحظى باعتراف دولي ولديها تمثيل في الأمم المتحدة.
ويتزايد القلق الصومالي من نيات مبيتة لدى إثيوبيا وحلفائها الإقليميين الذين يديرون استثمارات كبيرة في ارض الصومال، خصوصا وأن الإعلان عن مذكرة التفاهم جاء بعد أيام من توصل مقديشو وهارجيسا إلى تفاهمات مهمة لاستئناف مفاوضات إزالة التوتر وتحقيق الاندماج بناء على جهود الوساطات التي تقودها جيبوتي.
هذا الأمر عبر عنه مبعوث الصومال الخاص إلى أرض الصومال عبد الكريم حسين غولد، الذي أكد أن مذكرة التفاهم المعلنة تظهر “عدم اكتراث أثيوبيا بالأعراف الدولية وتهدم ما تحقق من تقدم بين مقديشو وعاصمة أرض الصومال هارجيسا.
أكثر من ذلك أن لدى الصوماليين مخاوف جدية من أن الطموحات الاثيوبية العسكرية قد تتسبب في تهديد الاستقرار في الصومال والقرن الأفريقي، كما ستجلب على الدولة الصومالية التي لم تصل بعد إلى حالة الاستقرار الكامل مشكلات كبيرة قد تعرقل طموحاتها بإعادة توحيد الدولة الصومالية.
والسلطات الصومالية تنظر إلى جمهورية أرض الصومال غير المعترف بكونها جزءا لا يتجزأ من أراضيها وترى أن عقد سلطات ارض الصومال أي صفقات مع دولة أخرى، أو تأجير أجزاء منها، دون موافقة مقديشو، سيقود إلى مشاكل سياسية وامنية كبيرة مستقبلا.
ذلك ما فسر التصريحات القوية للمسؤولين الصوماليين والتي تكللت بوصف الرئيس حسن شيخ محمود ما جرى بأنه عدوان ودعوته الصوماليين إلى الاستعداد للدفاع عن بلادهم، ناهيك عن تقديمه مشروع قانون للبرلمان الصومالي لإلغاء مذكرة التفاهم المعلنة، ما أشعل أزمة سياسية ودبلوماسية بين مقديشو واديس ابابا، كما أشعل حالة توتر غير مسبوقة بين البلدين.
مواقف دولية
تداعيات التوتر بين الصومال وإثيوبيا، كانت موضع اهتمام دولي عبرت عنه واشنطن وكذلك الاتحاد الإفريقي بإعلان تأييدهما لموقف السلطات الصومالية الرافض لمذكرة التفاهم المعلنة، وحثهما الطرفين على تهدئة التوتر المتصاعد، فضلا عن الموقف التركي والمصري، حيث عبرت كل من القاهرة وأنقرة دعمهما لموقف الحكومة الصومالية والتزامهما بوحدة الصومال وسيادته وسلامة أراضيه.
ورغم ذلك فقد اتجهت الحكومة الصومالية لحشد تأييد إقليمي أكثر فعالية لموقفها المناهض لمذكرة التفاهم كانت أولى محطاته في مصر التي زارها الرئيس الصومالي وحصل منها على دعم كبير بإعلان القاهرة رسميا رفضها مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال ودعمها لمطالب الصومال باحترام سيادته على كامل أراضيه.
الموقف المصري عبرت عنه وزارة الخارجية وكذلك الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي أكد أن مصر لن تسمح بأي تهديد يهدد وحدة الصومال بينما أكدت الخارجية المصرية “ضرورة الاحترام الكامل لوحدة وسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية على كامل أراضيها، ومعارضتها لأية إجراءات من شأنها انتهاك على السيادة الصومالية، مشددةً على حق الصومال وشعبه دون غيره في الانتفاع بموارده”.
وفضلا عن ذلك، فقد تمكن الرئيس الصومالي من الحصول على دعم من جامعة الدول العربية التي أعلنت تضامنها مع حكومة الصومال في رفض وإدانة مذكرة التفاهم المعلنة واعتبارها “انتهاكاُ لسيادة الدولة الصومالية وسلامة أراضيها، وهو موقف انطوى على رسالة ليس لأثيوبيا فقط، بل للاعبين اقليميين يديرون مشاريع مشابهة في الخفاء.
خيارات سلمية
على الرغم من أن حدة التوتر بين الصومال واثيوبيا بلغت مستوى مرتفعا إلا أن التقديرات ترجح بقاء الخلاف بين البلدين في الإطار السياسي الدبلوماسي دون تطوره إلى نزاع مسلح.
ذلك أن الصومال الغارقة في حرب صعبة مع منظمات إرهابية مناهضة للدولة والحكومة لا تمتلك الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية الكافية التي تؤهلها لخوض نزاع مسلح مع جارتها القوية إثيوبيا وهي استعانت منذ سنوات بالقوات الأثيوبية لدعم حربها على التنظيمات المتطرفة في مناطق جنوب الصومال واحتمالات سحبها من هناك قد يقوض الحالة الأمنية الهشة في الصومال بصورة عامة.
ومن جانب آخر فإن أي نزاع مسلح مع إثيوبيا سيتمدد إلى نزاع مع أطراف إقليمية أخرى ترتبط كذلك باتفاقيات تعاون اقتصادي بحري مع جمهورية ارض الصومال ولا سيما الإمارات القريبة من حكومة أرض الصومال.
بالمقابل فإن أثيوبيا التي تعد دولة قوية من الناحية العسكرية قياسا إلى الصومال، تعاني من اضطرابات سياسية داخلية، كما أنها لا تزال تعاني من دوامة صراعات اثنية معقدة في أقاليمها الشمالية، ناهيك عما تواجهه من مشكلات مع مصر والسودان حول سد النهضة ومياه نهر النيل.
ومنذ اليوم الأول لإعلان مذكرة التفاهم بدا أن الدولة الصومالية الناشئة قد اختارت طريق النضال السلمي على المستويات القانونية والسياسية والدبلوماسية لكبح التوجهات الأثيوبية، بالاستفادة من الموقف الدولي الداعم لفكرة كبح أي فرص لنزاعات جديدة في منطقة شرق إفريقيا والقرن الأفريقي وكذلك الموقف الإقليمي الذي يتبناه الاتحاد الإفريقي بالدفاع عن سيادة الصومال على كامل أراضيه واحترام السلم الإقليمي.
وعلى أن هناك آمالاً بأن تحصل الدولة الصومالية على دعم دولي وإقليمي استنادا إلى هذه الاعتبارات فإن الشكوك تساور كثيرين في قدرة الحكومة الصومالية على إنفاذ قانونها الصادر مؤخرا بإلغاء مذكرة التفاهم المعلنة أو وقف التوجهات الإثيوبية في هذا الشأن.
فهذه المرة ليست الأولى التي تصدر فيها مقديشو قرارات بإلغاء اتفاقيات توقعها ارض الصومال مع دول أخرى، حيث سبق وأن صوت البرلمان الصومالي على قرار بإلغاء اتفاق مشابه بين جمهورية ارض الصومال والإمارات، حصلت الأخيرة بموجبه على حصة تعادل أكثر من النصف من ميناء بربرة، دون ان يفلح القرار بوقف المشروع.