قبل مئات السنين جاء الصليبيون إلى هذه الأرض “فلسطين” عاقدين العزم على المقام والاستقرار، مارسوا كل أنواع الإجرام بحق شعبها والأمة العربية والإسلامية والتاريخ شاهد على الفظائع التي ارتكبوها، فقد غاصت أقدام خيولهم بدماء الأبرياء، حين الاستيلاء على القدس، شنوا الحملات الصليبية واحدة تلو أخرى، جاء على رأس تلك الحملات القساوسة والرهبان والملوك من كل دول أوروبا حتى تحقق لهم الاستيلاء، لم تهدأ الثورات والانتفاضات من المسلمين الذين عاشوا قبل ذلك مراحل كثيرة من الفرقة والشتات وإثارة النزعات القومية والدينية وغيرها، ولولا تلك الاختلافات لما استطاع الصليبيون أن تطأ أقدامهم أرض المسلمين بالإضافة إلى الخيانات والمؤامرات التي شكلت أبرز نقاط الضعف والهزيمة.
وعلى حين غفلة جمع القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الشتات وحارب الفرقة وهزم الخونة والمتآمرين واستعاد القدس، واليوم جاء الصهاينة مكررين نفس الأساليب والسيناريوهات ذاتها، قتل وإبادة وتهجير لأصحاب الأرض وإحلال العنصر الصهيوني بديلا بالقوة وبالقانون وبكل أشكال وأساليب العصابات الإجرامية لكن بوسائل الدولة والسلطة والسطوة، وفي كل مرة يقف العالم ما بين مؤيد وهم الصليبيون الجدد، وشاجبون ومنددون، وهم الخونة والعملاء، وعاجزون يطلبون ممن أوجد الكيان وأسس له وقنن وجوده أن يقوم بدور الوسيط الذي يعيد الحقوق، الصليبيون تحركوا بما لديهم من إمكانيات مادية ومعنوية وسياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها لتطمين المجرمين في كل معركة وانتفاضة حتى لا يذهب المشروع الذي أوجدوه ويعود الحق لأصحابه ويستعيد المسلمون كرامتهم وعزتهم ووحدتهم وقوتهم ويخسر الغرب المصالح التي استولى عليها بواسطة الصهاينة من ثروات نفط وغاز وأكبر مستورد للسلاح والمنتجات وغيرها.
المنافقون والخونة والعملاء أذاقوا الشعوب الويلات وساموهم سوء العذاب سرا وجهرا، قتلوا كل إرادة حرة وصادروا كل مقومات التوحد والتكامل، وأبادوا كل بوادر المقاومة والعزة والكرامة، وكلما انقرض مجرم جاء غيره أظلم وأطغى، حُيّدت الدول العربية واحدة تلو أخرى واستفرد المجرمون بكل قطر على حدة واثيرت كل الاختلافات حتى وصل الأمر إلى قطع العلاقات لفوز فريق على آخر في المسابقات الرياضية، وتم تصنيع فزاعة الإرهاب والتطرف والتشدد وساهم خريجو الجامعة الإسلامية بتل أبيب في تصدير الفتاوى وتسويق نماذج القتل القذرة والمتوحشة على أنها دين وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأحداث سرعان ما كشفت زيف تلك الأكاذيب وفضحت الوجوه والأقنعة.
أما المنخدعون فقد صحوا من غفلتهم وتابوا إلى رشدهم، فمنهم من عاد إلى صوابه ومنهم من استمسك بالغيب وفضل المضي حتى آخر المشوار بسبب المصالح التي بذلت له والعوائد التي حصل عليها، والفضل في كل تلك المفاصلة لفلسطين وأهلها المرابطين على أرض ثالث الحرمين.
بين التفكك والانهيار
المجتمعات اليهودية التي استوطنت أرض فلسطين خليط من اتجاهات شتى ( بين يسار ووسط) يعبدون المال ويحبون الحياة، قال تعالى “وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ” البقرة (96)، حريصون على أدنى حياة وحينما وفدوا إلى أرض فلسطين كانت الوعود لهم أنها ستكون واحة من الأمن والرخاء والاستثمار وغير ذلك من المتع، لكن مع استمرار المقاومة وتصاعد وتيرتها فإن تلك الأمنيات ذهبت أدراج الرياح وستكون هناك هجرة عكسية، فكل يهودي سيرجع إلى المكان الذي جاء منه وهو الأمر الذي يدركه ساسة الكيان مما جعلهم يستعينون بأقذر الخونة من الدروز وغيرهم من المرتزقة، فهم لا يثفون بجيشهم أنه يستطيع أن يهزم المقاومة التي استطاعت أن تصنع سلاحها وتقضي على الخطر المفروض، وعملت على تسليح أبناء فلسطين حتى بأبسط الأشياء، لقد وجدنا الأعزل يواجه الجندي المدجج بالسلاح وسمعنا الأعزل يدهس الجنود بسيارته، والآن هناك آلاف من الصواريخ والقذائف والأسلحة صنعت محلياً من أجل التحرير لا الاستعراضات والمباهاة أمام الآخرين، كما يفعل الخونة والعملاء لإرهاب الشعوب المغلوبة على أمرها.
إن من ينظر إلى الأرقام الاقتصادية التي حققها الكيان الصهيوني يستيبعد إمكانية أن تتحول تلك المنظومة الاقتصادية الهائلة وتصبح أثرا بعد عين، لكن الوصف الصحيح أن هناك منظومة أمنية وأخرى اقتصادية هما عماد الكيان، فإذا انهارت المنظومة الأمنية وهو ما حدث بالفعل في السابع من أكتوبر، فإن المنظومة الاقتصادية انهارت أيضا، وهو ما تشير إليه الأرقام الحقيقية في كل المجالات، لقد سقط الاتحاد السوفيتي وانهار بين عشية وضحاها وكان أكثر قوة واستحواذا على الثروات، واقتصاده انهار وتفكك وأصبح عاجزا عن الاستمرار في شن الحروب وانكفأ على نفسه وهو القطب المنافس للمعسكر الرأسمالي، وغادر الصليبيون أرض فلسطين بفعل المقاومة والاستبسال من قبل رجال الإسلام أمام كل محاولات الاستمرار في السيطرة والاغتصاب للأرض وتدنيسها من قبل المجرمين، وغادرت الجيوش الصليبية الأراضي العربية والإسلامية إلى فرنسا وإيطاليا وانجلترا والبرتغال وهولندا واسبانيا وغيرها لا بإرادتهم وإنما بسبب المنطق الذي يؤمنون به ويحتكمون إليه وهو السلاح والقوة مع فارق جوهري وهو الأخلاق والدين والقيم والمبادئ، واليوم جاء الدور على اليهود فقد مكن لهم في الأرض بسبب القوة والخيانة والعمالة وقُدّموا وكشفوا حقيقتهم القذرة على مرأى ومسمع العالم أجمع، فقد مارسوا إجراما لا يقف عند حد، يتسلى بقتل الأطفال وإبادة النساء والعزل ويمارس الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، لأنه يرى أن غيره من أمم الأرض “بهائم” على صورة آدمية، خلقت لتسليته ومؤانسته لا غير ذلك، وهنا يأتي وعد الله الذي لا يخلف وعده بنصر عباده المؤمنين وهزيمة الشرك والكفر والطغيان ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” النور (55).