من غزوة تبوك إلى غزوات البحر الأحمر

د. حمود عبدالله الأهنومي

 

 

لدي اعتقاد راسخ أن أي أمة تتحرك على ضوء هدى الله تجد نفسها ماضية في الطريق التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمر بجميع مراحله، وإذا دققنا النظر اليوم في الحالة اليمنية نجدها قد تجاوزت مرحلة معركة الأحزاب، وأنها في ذات الخط البياني الذي وقعت فيه معركة تبوك، في الصراع مع أهل الكتاب، ولم يكن اليوم صعبا على القيادة الربانية والحكيمة في اليمن، ممثلة بالسيد القائد عبدالملك الحوثي – يحفظه الله -، أن تنتقل بالشعب اليمني إلى مربع المواجهة الإقليمية والعالمية؛ ذلك أن اليمن قد خاض صراعا طويلا مع القوى الإقليمية (السعودية والإمارات ومن معهما)، انطلاقا من ثقافته القرآنية التي يستهدي بها على طول مراحل هذه المعركة الطويلة، وحين اتخذ اليمن قراره التاريخي والاستراتيجي بمواجهة الصلف الصهيوني ونصرة أهلنا في غزة وفلسطين، كان من السهل جدا على شعبنا العزيز أن يواكب هذه المرحلة الخطيرة ثقافيا ونفسيا وروحيا وعسكريا، وهي المرحلة التي نقلت اليمن من مربع الصراع الإقليمي إلى مربع الصراع العالمي وبإزاء أقوى قوى العالم المعاصر ماديا وعسكريا وتقنيا واقتصاديا.
إن معركة البحر الأحمر اليوم تشبه إلى حد كبير معركة تبوك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضد أقوى دولة على وجه العالم، وهي الدولة الرومانية البيزنطية، وحقق فيها انتصارا معنويا كبيرا، أورث الرومان بعدها الهزيمة النفسية، وأحبط مؤامراتها واستعداداتها في غزو المدينة والقضاء على شأفة الإسلام.
تتشابه المعركتان (البحر الأحمر وتبوك) في كون العدو فيهما عدوا متمكنا بإمكانياته المادية الكبيرة، وسلاحه المتطور، وجيشه المنظم، وبقدرته على إنشاء التحالفات الكبيرة، من الأعداء والمنافقين، على حد سواء، وعلى حشد وتوظيف القدرات الاقتصادية الجبارة كإحدى أدوات المعركة، وفي كون كل من الدولتين البيزنطية والأمريكية ومن معهما من الأوروبين دولا قوية تهابهما جميع دول الأرض، وتخنع لهما جميع الأنظمة والحكومات العالمية.
في معركة تبوك، حشد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل من يمكنه القتال والخروج، حتى من المنافقين الذين كانوا في المدينة وحولها؛ لأن المعارك مع أهل الكتاب معارك يعتبر فيها السلاح الجماهيري سلاحا استراتيجيا مؤثرا، وهو سلاح يزعج ويثير قلق أمريكا، وخوفها، وهلعها، وقد وجدنا القرآن الكريم في سورة التوبة يشن حملة شعواء على المنافقين وحتى المتخلفين من المؤمنين وإن كانوا بعدد قليل، وقد علم الله أنه لن يكون هناك اشتباك مسلح بين الطرفين؛ إذ كان المراد هو نقل المسلمين في معنوياتهم من مربع الصراع مع قبائل وقوى إقليمية منافسة ومتقاربة في الكفاءة، إلى الصراع مع أقوى قوة دولية في ذلك الحين، وهذا يستلزم نقلة نوعية في النفسيات والروحية الجهادية العالية، وهذا ما نجح في تحقيقه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فعلا، وفي الحالة اليمنية اليوم كان أيضا من السهل على شعب ظل يتشوق لأكثر من عشرين سنة لخوض غمار الصراع مع أمريكا والصهاينة، فإذا بغزة والسابع من أكتوبر يقرب المسافة ويجعل من اليمنيين وجها لوجه مع الأمريكان والصهاينة في البحر الأحمر.
وكما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحرّك في ظروف كانت غاية في العسر والمشقة؛ إذ كان المسلمون يعانون من أزمة اقتصادية كبيرة، وزاد الأمر شدة أن الثمر والزرع كان قد أوشك على النضج والحصاد، وهم كانوا بحاجة إلى كل ما يمدهم ويعينهم اقتصاديا، وهذا أيضا يشبه حال اليمنيين المحاصرين طوال سنوات العدوان الماضية؛ حيث يعانون من ضائقة اقتصادية شديدة وحصار خانق طويل.
أما الشبه الواضح واللافت، فهو دور المنافقين في كلتا المعركتين، على أنه من الطبيعي أن يظهر المنافقون بشكل فاقع وواضح في محطات الصراع بين المستضعفين الذين بدأوا يحققون نتائج ملموسة على أرض الميدان، تجعل من المنافقين خاسرين، وبين المستكبرين، الذين لديهم قدرات هائلة في توظيف الولاء المنحرف لدى منافقي هذه الأمة بالشكل الذي يحاولون فيه إلحاق الضرر بالجبهة الداخلية.
لقد انطلق المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدد من الأدوار الخبيثة التي هدفت إلى إضعاف الجبهة الداخلية وتصديعها وتنفيذ مؤامرات الدولة الأقوى في ذلك العالم، فقد تآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودتهم معه في المعركة، وتحركوا تحت عناوين دينية لمواجهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن معهم، وبنوا مسجدا ضرارا، أرادوه إرصادا لمن حارب الله ورسوله، وسخِروا من المطوعين والذين لا يجدون ما ينفقون، وشنّوا حملة شعواء اتهموا فيها المؤمنين بأنهم مخبولون ومغامرون ومتهورون، وأنهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة؛ إذ كيف لهم أن يذهبوا على قلة عددهم- وضعف إمكانياتهم المادية- لمواجهة أكبر وأقوى وأغنى دولة عالمية، فقالوا: (غر هؤلاء دينهم)، حينما رأوا تلك القلة القليلة تتصدى للدولة الرومانية.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أدرك مآرب هذه الفئة الخاسرة، استخلف رجلا قويا يحمي المدينة وعاصمة الدولة الإسلامية من كيدهم، ومكرهم، في غيابه، وهذا يبين أهمية تحصين الجبهة الداخلية، وتولية القيادات الكفؤة والشجاعة والحكيمة في مثل هذه المحطات من الصراع؛ لأن المنافقين سينشطون نشاطا غير عادي في مثل هذه الظروف، ولمّا رأى المنافقون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رماهم بعلي عليه السلام في المدينة، شنوا حملة شعواء من الدعايات المغرضة، وبعضها مجرد دعايات مضحكة، من مثل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك عليا إلا استثقالا له، أو كراهة له، وهذا يذكِّرنا بأبواق المنافقين اليوم وما يطلقونه من أقوال غريبة ومضحكة حينما برز اليمن في مواجهة الأمريكان ومن معهم، فهم في مرة يسخرون من اليمن وإمكاناتها في مواجهة الأمريكان، كما سخر أسلافهم من مواجهة المسلمين المستضعفين الجائعين للدولة الرومانية البيزنطية المتطورة والقوية، وها هم في إلغاء واضح لعقولهم واستهتارٍ لعقول متابعيهم يقولون: إن ما يحدث في البحر الأحمر مسرحية مدبّرة بين اليمن وأمريكا، وهذه فرية تميّز بها منافقو اليوم على السابقين منهم، وما سبقهم بها من أحد من المنافقين، ولكنها تدل على أن المنافقين هكذا في كل زمان ومكان يأتون بالغرائب والعجائب والتناقضات في إطار سعيهم في تنفيذ مآرب وخطط ومشاريع العدو؛ لأن المنافقين- كما يصورهم القرآن- ليس لديهم خطط ومشاريع خاصة بهم.
لقد انجحر الرومان البيزنطيون، واختفت جيوشهم الجرارة، التي كان يبلغ عددها مئات الآلاف، أمام ثلاثين ألف مقاتل من المسلمين، وتوزعوا في مدن الشام، ولم يجرؤوا للبروز أمام جيش المسلمين، رغم أنه احتك بحدودهم، وتحدّاهم في عقر دراهم، وعاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مظفرا منصورا، وقد عاد معهم المسلمون معتدَّين بقدراتهم، وحصلت لهم نقلة نوعية كبيرة في نفسياتهم، وأدركوا أن جيش الدولة العظمى لم يجرؤ على مواجهتهم، وأن مسألة تحرير بلاد الشام ومصر من نيرهم مسألة وقت.
وبناء على هذا فمن المتوقع- وبالتوكل على الله، ومن منطلق الثقة به، والثقة بعدالة القضية التي تحرك فيها شعبنا، وبناء على الإجرام غير المسبوق الذي يرتكبه اليهود في فلسطين، وأن هذا مؤذن بزوالهم، وأنهم باتوا في مرمى سخط الله، وأن الله مع المؤمنين، والمجاهدين، والمتقين، فإن اليمن ستخرج من هذه المعركة كأقوى ما يكون، وسيترتب عليها الخير الوفير لشعبنا وأمتنا، فعاقبة كل جهاد في سبيل الله خير، وحين تشتد المصائب على الأمة فالصابرون هم الموعودون بالبشرى، وبالنصر، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، (ا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَن).
إن ما يلزمنا اليوم كيمنيين وكأمة مسلمة مجاهدة هو الاستمرار في حالة التعبئة والتحشيد الجماهيري، والتوعية بأهمية هذه المرحلة، وتوفر فرصة كبيرة فيها لتحقيق النقلات النوعية في المسار التصاعدي الذي يتحرك فيه شعبنا، والتصدي لمشاريع النفاق بكل قوة، والاستفادة من أساليب سورة براءة في مواجهتهم، وتحصين الجبهة الداخلية، وتولية الرجال الذين يقتفون عليا عليه السلام في منهجه وحكمته وشجاعته وعدالته وقوته، من خلال تشكيل حكومة الكفاءات، وإجراءات التغيير الجذري، (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم).

قد يعجبك ايضا