حكايات مؤلمة لنازحين يروون معاناة ومآسي النزوح ومشاهد القتل والدمار في طريقهم
نازحو غزة يهربون من الموت إلى الموت:أكثر من 1.7 مليون من سكان غزة ينزحون من مكان إلى آخر ولا يعرفون وجهتهم المقبلة
الثورة / افتكار احمد القاضي
مع اشتداد القصف الجوي والبري والبحري على مختلف مناطق قطاع غزة المنكوب.. يواصل الآلاف من سكان غزة النزوح من شمال القطاع ووسطه إلى الجنوب هربا من الغارات الجوية الكثيفة والاجتياح البري والقصف الصهيوني المتواصل منذ السابع من أكتوبر الماضي، ويخرج النازحون قسراً من شمال غزة ومن وسطها عبر طريق صلاح الدين، سيراً على الأقدام، بعضهم يحمل بعض الممتلكات، لكن غالبيتهم لا يحمل سوى أطفاله وما يلزم من ملابس تقيهم قسوة البرد، وقليل مما تبقى لبعضهم من غذاء، ويبيتون في العراء قبل أن يصلوا إلى أقاربهم في الجنوب أو إلى مدارس ومستشفيات هناك، لكن القصف والغارات تلاحقهم في الطرقات وفي أماكن نزوحهم الجديدة.
يسيطر الرعب على النازحين وسط القصف الصهيوني المتواصل الذي يمتد من الشمال إلى جنوب غزة وهم يسيرون عبر طريق صلاح الدين المحفوف بالمخاطر ويستشهد البعض منهم في الطريق جراء غارة للعدو أو قذيفة مدفعية، لا حيلة لهم ولا مخرج ، انهم يهربون من الموت إلى الموت وكالمستجير من الرمضاء بالنار .
وتجسد المشاهد المؤلمة لقوافل الناس الراجلة على طول الطريق، وصمة عار في تاريخ الإنسانية، وفي جبين العالم الذي ربما لم يكن يتخيّل أن يحدث هذا التدمير وهذه الإبادة الجماعية في 2023م، ولا أن يقرر أحد مهما بلغت قوّته تهجير مئات الآلاف وتخييرهم بين الموت في العراء أو الموت تحت القصف الوحشي متخطيا كافة الضوابط والمعايير الإنسانية، والقيم الأخلاقية للحروب التي يتغنى بها العالم المتحضر، وهو يشاهد هذا العدوان الإجرامي الوحشي الذي يبيد المدنيين الفلسطينيين كالحشرات، وينكل بالنازحين وكأنهم قطيع أغنام على طريق النزوح.، ثم يلاحقهم إلى أماكن النزوح ويقتلهم.
شارع الموت
يجبر جيش الاحتلال النازحين على قطع مسافة تناهز الـ 10 كيلومترات، سيرا على الأقدام، لتجاوز “مفترق الشهداء” الذي تتمركز عليه دبابات وآليات عسكرية صهيونية، للوصول إلى ما بعد وادي غزة، في طريقهم إلى مدن ومخيمات جنوب القطاع، التي تكتظ منازلها ومراكز الإيواء فيها بمئات الآلاف من نازحي مدينة غزة وشمال القطاع.
كثير من العائلات الغزية التي تسارع إلى الهروب من منازلها، تقيم في مناطق منفصلة عن بعضها، بعد أن تقطعت أوصال الطرق بفعل القصف، فتجد نفسها مضطرة للسير مسافات طويلة في منتصف النهار، وهو الوقت المحدد من قبل الاحتلال، تمضي العائلات رجالا، ونساء، وأطفالا، ويقوم الأبناء بالتناوب على حمل كبار السنّ والأطفال، أو نقلهم على عربات صغيرة. وعلى العائلة أن تمضي في طرقات ممتلئة بردم المباني المهدمة، وعليهم رؤية مشاهد مفجعة لجثث الشهداء متكدسة على طول الطريق داخل المدن، قبل الوصول إلى شارع صلاح الدين المنشود.
فعلى طول شارع صلاح الدين الطويل، تتناثر الجثث، منها ما بدأ بالانتفاخ والتحلل، يملأ الدود سطحها، وجثث تتبدى مبتورة من وسطها أو يديها، وجثث أخرى متعفنة وقد بدأت الغربان بالانقضاض عليها.
رايات بيضاء
يمضي الناس أفواجا وجماعات، رافعين رايات بيضاء، على طول الطريق الممتلئ بالدبابات والجنود والقناصة الذين يعتلون المباني، راصدين النازحين بعدسات دقيقة تتفقد ملامح النازحين بشكل عشوائي لرصد وجوه الأشخاص المطلوبين لدى الاحتلال، وإن وجد أحدهم وقد تطابقت ملامحه مع صورة ما، فإنه يقتل ومن حوله على الفور، في عملية أشبه بالإعدام الجماعي الذي لم يتوقف الاحتلال عن ممارسته طيلة أوقات الحرب، كما يقوم الجنود الصهاينة المتمترسون على بعد أمتار من الطريق، وبشكل عشوائي، بإيقاف الناس للتفتيش، طالبين منهم إظهار بطاقات الهوية، بالإضافة إلى تجريد النازحين من مقتنياتهم القليلة، التي حملوها من بيوتهم الراقدة تحت القصف.. هذه هي رحلة القتل الجماعي الطويلة التي تمتد إلى أكثر من 30 كيلومترا من الرعب والعذاب، والموت ،سلكها اكثر من مليون فلسطيني حتى الآن:
وتقدر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن عدد النازحين في مختلف أنحاء قطاع غزة وصل إلى نحو 1.8 مليون شخص منذ 7 أكتوبر الماضي.
وكشفت الوكالة في وقت سابق أن قرابة 800 الف نازح يمكثون حاليا في 154 منشأة تابعة للوكالة في جميع محافظات قطاع غزة بما فيها الشمال.
قصص مؤلمة
قصص ومآس مروعة لنازحين من شمال ووسط قطاع غزة يهربون من الموت الى الجنوب لينجوا بأنفسهم وعوائلهم، لكن الموت يترصدهم في كل مكان، فالجنوب لم يعد آمنا كما يدعي العدو النازي الذي يقصفه كل يوم .
نازحو غزة يهربون من الموت إلى الموت:عايشت “أم البراء” و”أم أسعد” مع المئا
ت بل والآلاف من نازحي شمال قطاع غزة نحو جنوبه، وغالبيتهم من النساء والأطفال، مشاهد مروعة، لجثث وأشلاء منتشرة على جانبي شارع صلاح الدين الرئيس والوحيد الذي حدده جيش الاحتلال مسارا للنازحين، بعدما أغلق شارع الرشيد الساحلي، في سياق عمليته البرية.
وتروي النازحتان اللتان استقر بهما المقام في أحد مراكز الإيواء بمدينة رفح جنوب القطاع، تفاصيل مؤلمة ومشاهد مروعة يمر بها النازحون خلال “رحلة العذاب” من شمال القطاع إلى جنوبه، وأظهرتا تأثراً كبيراً سيبقى عالقاً في ذاكرتهما، وهن يتحدثن للـ”الجزيرة” عن جثث تنهشها الكلاب، وأشلاء ممزقة، وحيوانات نافقة ومتعفنة طوال الطريق الممتد من حي الزيتون في جنوب شرقي مدينة غزة وحتى مفترق الشهداء.
ويروي نازح آخر كيف أنهم اضطروا مع اشتداد القصف الجوي لمغادرة منازلهم في الثالثة بعد منتصف الليل وسط رعب غير مسبوق، كانوا يعتقدون حينها أنهم لن يخرجوا إلا جثثا هامدة، ومعاناة النزوح في ظل غياب أي من المقومات التي يحتاجها البشر للبقاء على قيد الحياة”.
كان أدهم الذي نزح برفقة والديه وأشقائه وعائلاتهم، يخشى على زوجته الحامل في شهرها التاسع وعلى أطفاله الثلاثة، يقول “نجونا من قصف هناك… لكن لا أحد يعلم كيف ستمضي الأيام المقبلة”.
ومع اشتداد حدة الغارات الجوية، والجرائم المتلاحقة التي زادت وتيرتها مع إعلان إسرائيل عن دخول حربها على غزة المرحلة الثانية والعمليات البرية، تقطعت السبل بـ”أم مريم” وأسرتها، وهم من حملة الجنسية البلجيكية، التي ظلت لآخر لحظة ترفض إخلاء منزلها في حي النصر بمدينة غزة.
تقول أم مريم “أشعر أن روحي تخرج مني ببطء، لم أعد قادرة على تحمل المزيد من مشاهد القتل والتدمير، الموت يقترب مني ومن أسرتي وأطفالي، وقررنا المغادرة، ولكن كيف؟، لا نعلم، وقد فصل الاحتلال الشمال عن الجنوب”.
ولا تستطيع أم مريم وأمثالها الوصول حاليا وبأمان من مدينة غزة وشمالها إلى جنوب القطاع، حيث معبر رفح البري مع مصر، المنفذ الوحيد لهم إلى العالم الخارجي.
وعلى مدخل خان يونس الرئيسي بجنوب القطاع، كانت تسير أم محمد شعت وأطفالها الثلاثة في رحلة نزوح شاقة بدأتها مع بزوغ النهار، بدءا من مستشفى الشفاء الذي كانت قد نزحت إليه من حي تل الهوا بجنوب غرب مدينة غزة بعد توغل الدبابات الإسرائيلية في الحي وقصفها العشوائي للمكان.
مشاعر الصدمة والفزع التي تتنازع أم محمد من هول ما رأت، تمتزج بإحساس الارتياح لوصولها إلى الجنوب أملا في الحفاظ على صغارها من القصف والهلاك.
لقد عاشت أم محمد مع عائلتها أياما قاسية بلا كهرباء ولا ماء ولا غذاء، بالكاد كانت تدبر أمرها، ومرت لحظات كان الموت أقرب فيها إليهم من الحياة إما بفعل القصف المباشر أو نتيجة نفاد الطعام، لكنها تقول إن ما يخفف من قسوة الأحداث هو وصولها بسلام ودون فقد أي من أطفالها.
وتقول : “ما شاهدته من استهداف للنازحين داخل مدينة غزة أو في أثناء توجههم للجنوب، جعلني أخشى أن يكون قراري بالنزوح خاطئا إن مس أي شر أطفالي، لكن وصلنا بعد ساعات من الرعب والخوف لم نشعر بها طوال حياتنا”.
وتضيف “شاهدنا الجثث الملقاة في الشوارع وبعضها تحللت منذ أيام، ورأينا أرتالا من الدبابات على طريق صلاح الدين، وسط دوي الانفجارات والقصف وحالة الرعب التي تسيطر على النازحين”.
وتأمل بعد رحلة السير الطويلة، والمشاهد المرعبة التي مرت بها، وقد استقرت لدى أقاربها- في نهاية قريبة “للنكبة الجديدة التي حلت بالفلسطينيين، وبصورة تجاوزت كثيرا نكبة 48 بكافة التفاصيل”.
مصير مجهول
وإذا كان بعض النازحين قد وجدوا المأوى، فإن غالبية النازحين يظلون في حيرة وتيه يعيشون الخوف والقلق والفزع في كل لحظة، إلى أين يمكن أن يتجهوا بعائلاتهم؟ بعضهم يقضي ساعات طويلة وربما أياماً في الشارع قبل النزوح لأي مدرسة مهما كانت مكتظة وغير قادرة على استيعاب أعداد إضافية، وهو ما حدث مع عائلة أبو إبراهيم، النازح من حي الزيتون بمدينة غزة، فقد تقطعت بعائلته السبل، فاندفعت نحو إحدى المدارس رغم أن القائمين عليها أبلغوها أن الأعداد كبيرة جدا ولا متسع لأي عائلة جديدة، لكن العائلة أصرت على الدخول والمكوث.. فلا سبيل آخر لها بعد أن باءت كل محاولاتها في العثور على مأوى بالفشل.
انتهت معاناة رحلة النزوح، لكن بدأت رحلة عناء جديدة لا تقل صعوبة عن الحياة تحت القصف، وهو كيف سيتدبرون شؤون الحياة اليومية وتوفير النزر اليسير من بعض الاحتياجات الضرورية للحياة .
يقول “تركنا بيوتنا وكل ما نملك وصرنا لا نملك شيء، نبدأ حياة نزوح ولجوء لم نتخيل حدوثها في حياتنا، وليس أمامنا سوى التكيف مع هذا الواقع رغم مرارته وقساوته.
ويتساءل : هل نحن أمام مزيد من القصف والمعاناة والنزوح أم أننا سنقف عند هذا الحد؟ أيكتب لنا الله النجاة أم نكون هربنا من الموت إلى الموت ؟
أين المفر؟
ونشرت صحيفة “تايمز” البريطانية تقريرا عن الأوضاع المأساوية لآلاف النازحين في غزة.
وقالت إن سكان شمال قطاع غزة نزحوا إلى خان يونس جنوبا بينما تواصل “إسرائيل” هجومها الشامل، ومن الجنوب بدؤوا بالفرار إلى الحدود والبحر، والآن يتم سحق أكثر من مليوني إنسان وحشرهم في منطقتين صغيرتين، وأصبحوا يسألون أين يمكنهم الفرار بعد ذلك؟.
ونقلت “تايمز” عن أحد الفلسطينيين النازحين واسمه إبراهيم عبدالكريم (38 عاما) قوله إنهم نزحوا من الشمال إلى النصيرات، ومن هناك إلى دير البلح، ومن هناك إلى خان يونس، ومن ثم إلى رفح، وتساءل “ماذا نفعل بعد ذلك أين نفر مع عائلاتنا؟”.
ومدينة رفح هي آخر مدينة قبل الوصول إلى مصر، وهي قبل الحرب كانت موطن لربع مليون شخص، والآن يتكدس فيها ما يقارب مليون شخص يقدر أنهم محشورون في نصف المدينة.
وقال النازح عبدالكريم “الناس مكدسون فوق بعضهم بعضا”، ويخيمون في الشوارع، ومواقف السيارات، والمدارس والمستشفيات التي أصبحت مخيمات غير رسمية للنزوح، وهي ممتلئة بالفعل.
ولم تشر الصحيفة البريطانية إلى أن هذه الأماكن ظلت أهدافا للغارات الإسرائيلية التي أودت بحياة المئات من النازحين.