لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخاصة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدد هوية وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتجاه توسيع المحتوى الدلالي أو تضييقه أو تعديله بشكل من الأشكال.
ولذلك نقول ن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأنا عن المعركة العسكرية ولا بد لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة حتى نحقق الانتصار الذي نرغب ما لم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن ولا بد من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أخرى فيكون الصراع تعبيرا عن النقص لا استقرارا من توازن الكمال بينهم .
نحن ندرك اليوم أن العالم أصبح قرية صغيرة لابد أن نتلقى أفكاراً ونعطي أفكاراً، لأن من يعرف يحب المعرفة في غيره، والمهم حسن الاختيار، وبعد حسن الاختيار حسن الاستخدام، والمهم أن نكتشف على ضوء الفكر مكامن قوتنا ومواطن ضعفنا، وبمعرفتنا نفوسنا نعرف من أين نبدأ؟ وكيف؟ فالواقع يتحرك من حولنا ومن تحتنا، ولا نقدر على تسييره إلا بالفكر المثقف والاستزادة من التثقف والتفكير، لأن الواقع لا يبدو في أحلامنا وإنما يتحرك من خارجنا ويمتد منه إلينا.
ولعل الواقع أخصب مادة للفكر، لأن للفكر موارد كما له منابع، وليست المعرفة الفكرية مقصورة على الكتب ومناهج الدراسة وإنما كل قضية وكل شيء يعطي فكرةً ويلهم رأياً، وقديما كانت العرب لا تصدر عن أصحاب الحكمة والتجربة والرأي.
ومن يحب معرفة نفسه يعرفها من تجارب غيره ومن وقائع تجربته، فوراءنا طريق طويل من التجارب، فإذا كان الماضي من العصر قد هجم علينا قبل الاستعداد له، فإن علينا أن نواجه الحاضر بنفس روح العصر وآلاته، فطول احتمائنا بالماضي أو حفاظنا على الحاضر لا يدفعان عنا هجوم الغد، ولكي لا يهاجمنا الغد كالأمس علينا أن نهاجم الغد من أوسع أبوابه، لان أمسنا من صنع غيرنا أما الغد فهو من صنعنا أو صنع حاضرنا .
وتحرك الجماهير دليل على رفضها للواقع ورغبتها في الأفضل الذي يحظى فيه الإنسان اليمني بإنسانيته ليعيش الحياة لا ليكابدها، واليوم وقد رفضت الجماهير واقعا وحل محله واقع أجدّ نسبيا، فمن الممكن إبداله بواقع أكثر جدة، وأكثر نظافة وأكثر إمكانا لتجديد كل واقع، فالسلطة مدينة بوجودها للمواطن العادي الذي ينكر كل سلطة سيئة، ويبحث عن سلطة أفضل لأن كل زعامة سياسية أو قيادة عسكرية لا بد أن تكون وليدة ظروف، لكن هذه الظروف من خلق المواطنين العاديين لكثرتهم وحرارة تجاربهم مع محترق السياسة، والتأريخ يتحدث أن الذين ترفعهم أحداث تسقطهم أحداث، والذين تخلقهم فرص تعدمهم فرص أخرى، والوسيلة الوحيدة لبقاء أي زعامة هو النزول عند رأي الشعب مفجر الأحداث وصانع الحدث، كما دلت الأحداث والوقائع .
وطالما وقد تحمل أنصار الله مسؤولية القيادة والريادة في هذه المرحلة فلابد لهم من التجدّد والأخذ بمبدأ المبادرة وصفات الرائد والقائد، ليقودوا شعبهم بكل دراية ووعي واقتدار إلى مرحلة التعامل مع التغيرات.. أي مرحلة الانتقال من عقلية عصر الصناعة إلى عقلية عصر المعلومات، والفرق بينهما أنه في عصر الصناعة كان يتم الحصول على المعلومات كلما كانت هناك حاجة إليها في حين تتواجد المعلومات في عصر المعلومات بشكل دائم وهي تدور في حيز التشغيل، وكما كان الحال في عصر الصناعة يتصرف القادة فيه وكأنهم أصحاب القرار، ولا بد من إدراك الحقيقة التي نحن عليها أن هذا المبدأ قد تغير بتغير الأحوال والمستويات الحضارية والمعرفية، إذ فقدَ القادة في عصر التكنولوجيا خاصية صنع القرار بل أصبحت مهامهم أكثر يسرا وأكثر تفاعلا مع الحدث من خلال العمل على تشغيل المعلومات المتوفرة، وهذا هو الحال الذي نحن عليه في عصر التكنولوجيا ولابد من الوعي به، والاشتغال على الخطط الاستراتيجية التي تصنع المستقبل وليس انتظار المستقبل حتى يأتي، والاشتغال على الخطط لا يمكن أن يكون عفو الخاطر بل برؤى وأفكار قادرة على التحرك والتفاعل مع واقعها من خلال بنية تنظيمية وبنية توجيهية، وبنية رقابية، ترصد الحالات المنحرفة لتعمل على تعديلها حتى تتسق مع البناءات المختلفة.
فاحتفالنا بعيد الاستقلال — كثورة أخرجت مستعمرا – لا يعني الثبات بل يعني أن ثورتنا مستمرة – كما قال قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي – واستمرار الثورة لا يعني الحصول على الاستقلال والحرية والسيادة فقط بل يعني التجدد والتفاعل وإحداث متغير حقيقي في حياة المجتمع لا بشبه ما كان في سالف الأيام بل يبدع ما سوف يكون في قابل أيامنا من خلال الصناعة والوعي وتجديد المفاهيم وإعادة تعريف مفاهيم الوطن والهوية والحرية والاستقلال والسيادة، بعد أن فسد هذا المفهوم وتبدل بفعل الخطاب الإعلامي المكثف للخونة ومرتزقة العدوان .
Next Post