نقد الفكر الغربي المعاصر (2-2)

د .عرفات الرميمة

 

 

كنا قد تحدثنا في مقال سابق أن فلاسفة ما بعد الحداثة، هدموا الأسس والأركان التي بنى عليها فلاسفة الحداثة الغربية أفكارهم ومن أهمها العقلانية، وسوف نتحدث اليوم عن هدم وتقويض الركن الثاني من أركان الحداثة الغربية من قِبل فلاسفة ما بعد الحداثة.
النزعة الإنسانية:
ظهرت النزعة الإنسانية (Humanism)إبان عصر النهضة الأوروبية في نهاية القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، وقد أبرزت كل ما هو إنساني واهتمت بالإنسان كفرد وأعادت له الثقة في ذاته وفي قدراته، بما يغذي حياته وينمي شخصيته وفكره، كما اهتمت بدراسة التراث القديم_ الروماني واليوناني _ وعملت على إحياء الثقافة القديمة وبعثها من جديد.
وبمرور الوقت تحولت النزعة الإنسانية إلى موقف ثقافي وفكري شامل تميز أساساً بالاهتمام الهائل بالإنسان الفرد وتمجيد وجوده والإعلاء من قيمته، فظهرت الفردية (Individualism) العنيفة في الآداب والدين والسياسة نكاية بالتصور اللاهوتي_ الذي كان سائداً في العصور الوسطى _ للإنسان المكبل بدنس الخطيئة، لقد كان فلاسفة عصر النهضة والعصر الحديث إنسانيين بمعنى “ أنهم آمنوا بأن الإنسان معيار كل شيء وأن كل إنسان معيار ذاته، لقد جعلت الحداثة من النزعة الإنسانية والإيمان بالإنسان، ركناً هاماً من أركانها، ويجب ملاحظة أن الحداثة الغربية تقصد بالإنسانية : الإنسان الغربي الأبيض دون غيره، الرجل دون المرأة، ولا يقصدون بها الإنسان كما أراده الله، الذي استخلفه الله في أرضه .
تقويض النزعة الإنسانية:
لقد تم تقويض النزعة الإنسانية بشكل نهائي _التي باهت بها الحداثة وتماهت بها ولها ومن أجلها _ عندما تم الإعلان عن موت الإنسان، باعتباره أساس النزعة الإنسانية ورأس مالها، لقد بدأ ذلك الإعلان عندما قال الفيلسوف الألماني نتشة (1844م ـ 1900م) على لسان زرادشت أن الإله قد مات، وعندما يموت الأصل فلن يبقى للفرع وجود على الأطلاق، وسيسقط في أقرب فرصة مواتية وذلك لأن القول بأن الإله قد مات “ يعني أن الإنسان قد مات أيضا، أو أنه يعيش لوحدة في هذا العالم”، لكني أرى أن نتشه كان يقصد بموت الإله موت إنسان النزعة الإنسانية الذي جعلت منه الحداثة الغربية إلهاً متوجاً بالعقل، مسيطراً على الطبيعة، نكاية بالكنسية.
لقد جعلت النزعة الإنسانية الإنسان أهم من الحياة ومن الطبيعة، فعاث في الطبيعة فسادا، مدمرا لها وللحياة فيها ووصل ذلك التدمير للإنسان من خلال حربين عالميتين دمرتا الطبيعة وقتلتا ملايين البشر والأهم من كل ذلك أنهما قتلتا كل ادعاء للنزعة الإنسانية باصطفائية الإنسان وتميزه والواقع المعاش قد اثبت العكس، يمكن القول إذاً إن أبحاث ودراسات شتراوس الانثروبولوجية التي استخدم فيها المنهج البنيوي، قد توصلت إلى أفكار ومواقف صبت في نفس الاتجاه الداعي إلى تجريد إنسان النزعة الإنسانية من كل خصوصية تميزه، باعتباره كائناً اجتماعياً وثقافياً وتاريخاً، لقد رفضت البنيوية (Structuralism ) الاعتراف للإنسان بذات تمثل كياناً واقعيا، وانتقصت من قيمة وعيه الذي اعتبرته كاذباً ومخادعاً، ونفت أن يكون الإنسان متمتعاً ولو بقدر نسبي من الحرية في مجال المبادرة والإبداع، وجردته من المشاعر والعواطف وأفرغت كلامه من القصد ومن المعنى، فهو لا يعبر عن نفسه ليظهر من خلال اللغة وإنما هي من تظهره من خلال أنساقها وأبنيتها، وبالتالي قضت على كل ما بنته النزعة الإنسانية عن الذات والذاتية .
كان ليفي شتراوس (1898_ 2009م) يطمح في دراساته الانثروبولوجية إلى “ تحطيم البداهات التي طالما ارتكز عليها الفكر الغربي، ألا وهي فكرة الإنسان وأولوية التاريخ وتفوق التفكير العلمي على غيره من الأساليب الأخرى في مواجهة العالم كالسحر والميثولوجيا وغيرها “.
وكان من الضروري أن تتغير النظرة إلى الإنسان _ باعتباره غاية ووسيلة في نفس الوقت _بعد أن ثبُتَ زيف ادعاء النزعة الإنسانية باصطفائيته وتميزه عن باقي المخلوقات، من أجل ذلك وجب القول : إن احترام الإنسان يبدأ باحترام مبدأ الحياة ذاتها ولن يجد ذلك الاحترام صداه المطلوب من دون التضامن مع كل الأنواع الحية على وجه الأرض .
إن النزعة الإنسانية الحقة والجديرة بحمل هذا الاسم كما قال كلود ليفي شتراوس: “لا تبدأ من نفسها، بل تضع العالم قبل الحياة، والحياة قبل الإنسان، واحترام الآخرين قبل حب الذات “.
نلاحظ في العبارة السابقة نزعة جديدة تقف _ بالتأكيد _ في مواجهة النزعات الفردية التي روجت لها النزعة الإنسانية سابقاً وتبنتها الفلسفة الوجودية في القرن العشرين، وتلاقت مع ما تعوّد عليه الإنسان الغربي في حياته المعاشه من أنانية وتفّرد.
لقد أخذ شتراوس على عاتقه إظهار الخطأ الذي وقعت فيه الذات الغربية والحضارة الغربية والفلاسفة الغربيون برمتهم، حين اطلقوا على أفكارهم الخاصة طابع المطلق، دون أن يفطنوا أن تلك الأفكار “ لا تزيد عن كونها مجرد أشكال مختلفة لموضوع واحد هو مجال الممكنات الذي تقدمه لنا الأساطير والممارسات العملية الموجودة لدى تلك المجتمعات التي نسميّها _ بغير وجه حق _ باسم المجتمعات البدائية … وعارض مصطلح فلسفة التاريخ، لأنه لا يسلّم بمبدأ قياس التاريخ بالالتجاء إلى معايير الارتقاء والتحول والتقدم والتطور، وبناء على ما سبق: نادى بالمساواة بين جميع الحضارات، لا فرق لديه بين الحضارة الغربية المعاصرة وبين الحضارات البدائية وكأنه أراد أن ينبه إنسان الحضارة الغربية المفتخر بذاته إلى أن الإنسان البدائي أخ لنا في الإنسانية، وهو أقل همجية وتوحشاً من الإنسان الغربي الذي يدعي التحضر .
كل ما سبق جعل من كلمة الحداثة عند البعض نذير شؤم، وشيئاً ممقوتا أكثر مما هو محمود، فهم يرون في تلك الكلمة مجموعة مبهمة من السلوكيات، أو هي عبارة عن حضارة مسيطر عليها من خلال العلوم والتقنيات، يديرها عقل برجماتي مرتبط بمقولة مكيافيللي (الغاية تبرر الوسيلة) وتسلطت عليها بعض المقولات منها: كل الأسئلة التي لا نستطيع الإجابة عنها هي أسئلة خاطئة ـ بما في ذلك اسئلة الخير والشر ـ والتي تشكلت منذ ذلك الوقت من خلال علاقات القوة، وعنت الحداثة كذلك عند البعض: وحدانية شمولية للسوق ـ أي للمال ـ ونظاماً تختزل فيه كل القيم ـ بما فيها القيم الدينية والأخلاقية ـ إلى قيم سلعية، وهي كذلك نظام حياة غربي الطابع يهدف إلى تحويل الإنسان إلى منتج أكثر وأكثر فعالية وإلى مستهلك أيضا أكثر وأكثر شراهة في رغباته، تحركه مصلحته الفردية فقط التي يجب الوصول إليها بكل الوسائل ـ باعتبارها غاية ـ حتى لو تطلب الأمر تغييب مصالح الآخرين.

قد يعجبك ايضا