منذ زمن صرت ضمن الباحثين عن هذا البعد في كل الثورات لاعتقادي بأن الثورة الحقيقية الوحيدة الجديرة بوصف الثورة هي ثورة العلم التي تعم شمسها الجميع بالتغيير الفعلي لا بالشعار وهي الوحيدة التي لا تحتاج في تغيير النظريات والنظم إلى استخدام القوة وإهدار الدماء والاعتماد على إشعال الأحقاد واستخدام أسوأ ما في التأريخ من ثارات وضغائن، وسيلة العلم وغايته نور البصر والبصيرة ونبذ الكراهية والحب الذي يسع الكون ويشمل الإنسانية، فكيف يتحقق هذا المعنى الإنساني لثورة 26 سبتمبر؟
إذا أمكن التبسيط فما أقصده هو أن يدرك الثائر الحقيقي سواء من المنتمين لهذه الثورة أهدافاً وسلوكا أو إلى أي حركة أو مسمى ثوري آخر أن استخدام القوة في تغيير النظام أي نظام إنما هو وسيلة استثنائية يجب أن تكون غايتها إيقاظ الوعي بالبعد الإنساني للثورة وأن تستخدم في حدود الضرورة القصوى فكيف يكون ثائراً يقظاً وإنساناً من يمارس الفعل الثوري؟! الثائر والمجاهد الحقيقي ليس قاتلاً ولا جابياً ولا حاقداً ولا عنصرياً ولا مذهبياً، إنه إنسان يزرع سنابل الحب للجميع وبالجميع.
ومن غير المستحيل على مستوى الفرد الحرص على ضبط سلوكه بما يتواءم مع جوهر أهداف الثورة من مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية واضحة يعم خيرها جميع أفراد المجتمع وتتخطى كل أشكال التمييز والعنصرية، وهذه غاية جميع الأفكار والأديان والفلسفات والطرق والمذاهب السوية كإطار عام يضم التعدد الخلاق الذي يعيش وينمو بالحوار والتفاعل ، هذا هو البعد الإنساني الذي تضمنته أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962بدون مواربة وهي ذات الأهداف التي تشغل أذهان وأفكار وعقول ووجدان البشر الأسوياء في مختلف أنحاء الدنيا والمكون لروح ثوراتهم ، والأصل أنه ينبغي السعي إليها وفق مناهج العلم وعن طريق السلام والبعد عما يؤدي إلى العنف والتوتر لأن العنف يولد العنف وكل إناء ينضح بما فيه ، والثوار الحقيقيون يدركون أهمية النقد في مراجعة مسار أي ثورة أما الاعتماد على الدعايات المهيجة للأفعال وردود الأفعال فلا تنمي سوى التعصب ولا تؤدي إلا إلى مزيد من الانغلاق والجمود ، نعم لقد كانت أهداف ثورة 26 سبتمبر خلاصة مطالب أغلب إن لم يكن جميع الشعوب العربية وما يسمى بالعالم الثالث قام بها مجاميع من أبناء اليمن يمثلون النسيج الاجتماعي بكل شرائحه ونواة طبقاته المختلفة ، وهذا البعد الإنساني لدى أولئك الثوار كان حاضراً وبقوة ودون تمييز ويمكن استعراض نموذج من أسماء الضباط الأحرار ، علي عبد المغني ومحمد مطهر زيد وعلي قاسم المؤيد وحمود الجائفي وعبدالله السلال وعبد الرحمن الارياني وعبد السلام صبرة ويحيى المتوكل ومحمدالشامي وعبد الكريم وعلي المنصور والرحبي وأحمد السوسوة وأحمد قرحش وعبد الله المؤيد وأحمد الرحومي والموشكي ، ولأني لست من جيل هؤلاء الثوار ولضيق المساحة فإني اعتذر لعدم الإحاطة بمن كانوا في الطليعة ، لقد مرت مسيرة الثورة بنجاحات وإخفاقات وتعرضت من الشقيقة الكبرى والجوار المعادي والمرتزقة المحليين والأجانب إلى هجمات وحرب ثمان سنوات وحصار سبعين يوماً للعاصمة لا حُباً في اليمن والنظام الذي ثار الشعب ضده فالسعودية مع الأسف الشديد لم يشعر اليمنيون من قبلها في يوم من الأيام بقليل من مشاعر الاحترام ناهيك عن الحب ، وهذا النهج للسياسة السعودية ما زال مستمراً تجاه اليمن ، وحين يتغير سنكون سعداء بالإشادة بالموقف الجديد ، أما الآن فلا يمكنك أن تصف الواقع بغير ما تراه وتشعر به وتعايشه ، فالكذب لا يقلب الحقائق مهما بذل في تنميق الصورة والتمادي في السير في نفقه المظلم ، واليمنيون وحدهم القادرون على تقييم خطورة استمرار الثأر السياسي باستخدام اسم الثورات من خلال التسليم الصادق بحق الجميع في الحياة والالتفاف حول أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر كثورة جامعة مع المكاشفة والمصارحة حول ما ارتكبته من أخطاء وتقريب هذا المفهوم للجميع تمهيدا لمصالحة حقيقية صادقة تستأصل أسباب الثأر ومراجعة التأريخ لوضع حد لكل أشكال المكائد والخداع والتحفز لردود الأفعال وموجات العنف التي أنهكت اليمنيين ولوثت تاريخهم بما تضمره الأطراف المتصارعة على الحكم من شرور وآثام استباحة كل المحرمات في السباق على السلطة ، والثوري الحقيقي قادر على أن يجعل للثورة معنى إنسانياً يستأصل البغضاء والكراهية من النفوس ويحولها إلى ثقافة إنسانية خلاقة ، ويجعل من الوطن أفقاً واسعاً لكل أبنائه بعيداً عن كل أشكال التصنع والاستغلال السياسي فالسياسة إنما وجدت لتكون في خدمة كل الناس وعدم الاستعلاء عليهم وممارسة الثارات والطغيان والاستبداد.
هذه دعوة إلى حوار يمني يمني جاد يهدف إلى مشروع وطني جامع يجنب اليمن واليمنيين ويلات استمرار دوامة الحروب والمشاريع المريضة والضيقة فهل من مستجيب؟
الشعب مهما ظن جلاده * لا يقبل الظلمَ ولا ينحني