الفكرة التي تخدم وتحقق المصلحة للناس هي الأكثر اتباعا..

عبدالفتاح حيدرة

 

يُحكى أن ثلاثة من العميان أرادوا أن يتعرفوا على شكل الفيل، ولم تكن لديهم أية فكرة سابقة عنه، وكانت وسيلتهم الوحيدة للتعرف عليه – بطبيعة الحال – هي اللمس، فلما أُحضر الفيل إليهم، وقعت يد أحدهم على رجليه، ووقعت يد آخر على نابه، بينما وقعت يد الأخير على أذنه، فلما سألهم أحد العميان الآخرين الذي لم تتح له فرصة اللمس، فكانت أجوبتهم مختلفة، فقال الذي لمس رجل الفيل ” إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها” وقال الذي لمس الناب ” ليس كما يقول، بل هو صلب لا لين فيه، وأملس لا خشونة فيه، وليس في غلظ الأسطوانة أصلا، بل هو مثل عمود” فاعترض الذي لمس الأذن قائلا ” ما قيل ليس صحيحا “فما هو بعمود ولا هو مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد عريض غليظ”..
مشكلة هؤلاء العميان لم تكن في صدق أحدهم أو كذب الآخر، ولكن مشكلتهم أنهم نسوا أنهم عميان، وأن وسيلتهم في المعرفة هي اللمس، وأنه من الجائز جدًا أن يكون كل منهم لمس جزءا من الفيل، ولم تتح له الفرصة كي يتعرف على بقية أجزائه، فلو كلف أحدهم نفسه أن يفكر قليلا لاستوعب حقيقة الأمر، ولجمع الرؤى المتعددة وكون بها صورة كاملة عن الفيل، لكنه الغرور الذي يخيل لصاحبه أنه يملك الحقيقة المطلقة، والعمى الذي يُعمي العقول قبل أن يعمي الأبصار، فهؤلاء العميان هم نحن، وسائلنا فى المعرفة محدودة، ولكن غطرستنا لا حدود لها. المس ما شئت من فيل المعرفة وحقائق الأمور، لكنك فى النهاية لن تحصل سوى على جزء من الصورة، وبقية الصورة لدى الآخرين، احترم الآخر تكتمل رؤيتك، تغطرس بما لديك، فلن تعرف ولن يكون نصيبك سوى وهم معرفة لا أكثر..
صدقوني ليست المشكلة في منع بعض تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي أو منع الآراء باعتبارها شاذة أو تُهدد سلامة المجتمع من وجهة نظر البعض، المشكلة الحقيقية أن تحديد الشاذ من الأفكار أو الذي يُهدد السلم المجتمعي أمر نسبي، فلك أن تعيد النظر في التاريخ الإنساني كله، هل رحب مجتمع أيا كان بأي جديد.. ؟!! سواء كان الجديد دينيا أو معرفيا، هل قوبل نبي من أنبياء الله ورسله بالترحاب حين قال لأبناء جلدته إنكم على الخطأ وقد جئتكم بالصواب.. ؟!! لم يحدث هذا على مدار التاريخ، لأن القضية في جوهرها ليست قضية صواب وخطأ أو سلامة مجتمع، بل القضية هي “العادة” التي كانت أقوى الأسلحة التي ووجه بها الأنبياء والرسل والمصلحون والفلاسفة على مدار التاريخ، فالبشر لا يتخلون عن عاداتهم بسهولة مهما كانت درجة الخطأ فيها، بالإضافة طبعا لمصالح جهات معينة تعتاش على هذه الأفكار القديمة، وتحصل منها على قوتها وهيمنتها، سواء كانت قوة أدبية أو مادية أو عسكرية، وهؤلاء يقاتلون بشراسة كل جديد لأنه يهدد سلطانه أصلا ..
قد يسأل البعض وما الآلية التي سنواجه بها الآراء التي تبدو غير مفيدة أو حتى شاذة وتهدد السلم المجتمعي .. ؟!! والإجابة هي أن المجتمعات لا تتبنى آراء ونظريات بدون وعي، بل الفيصل في النهاية هو ما يحقق مصلحة الأفراد والمجتمعات، معيار الناس و المجتمعات غير المعلن هو المصلحة، ما عدا ذلك يغيب في مجاهل النسيان، والأمثلة على ذلك كثيرة، ونذكر جيدا حين وقف شيوخ وفقهاء كثيرون يحرمون التليفزيون مثلا، هل نجحوا في النهاية أم صاروا هم أنفسهم نجوم التليفزيون اليوم .. ؟!!، ومثلا عندنا في اليمن عندما ظهرت المسيرة القرآنية، نذكر جيدا كيف إن الآلة الإعلامية والمذهبية والسياسية والدبلوماسية والمناطقية وقفت بوجهها ووصل الأمر إلى القتل والتنكيل بالمنتسبين لها طوال ستة حروب متتالية، فهل نجحت تلك الآلة في وقف المسيرة القرآنية وقتلها ووأد فكرتها، أم أن المسيرة القرآنية اليوم أصبحت هي المنهج والعقيدة والمشروع والوعي الذي يحكم و يدافع عن عرض وأرض وشرف وكرامة اليمن كلها، هكذا هو الأمر في كل ما يحقق فائدة البشر، سواء كان فكرة أو تقنية، فهي بالأساس فكرة لتطوير وعي الناس بمصلحتهم، فإذا عرف وادرك الناس أن مصالحهم تتحقق من هذه الفكرة اتبعوها وطوروا كافة استخداماتها بما ينفعهم ويبقي على مصالحهم..

قد يعجبك ايضا