الرجولة والرجال

د. خالد الجميلي

تزامنا مع التطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة ظهرت بعض التحديات الثقافية والفكرية والاجتماعية وأثرت سلبًا على الثقافة المجتمعية والقيم السامية، حيث يلاحظ في مجتمعنا اليمني اليوم ثقافة شعبية بالقول فلان (رجال) على الشخص الذكي والحاذق الذي يستخدم حذقه وفطنته للحصول على ما لا يستحقه، أو لتزييف الحقائق وتضييع حقوق الآخرين.
وللأسف الشديد انتشرت هذه الثقافة متجاوزة حدود المدن لتصل الأرياف دون نبذ مجتمعي ولا ردع قيمي سائد .
إنَّ المتتبع لمعنى الرُّجولة في القرآن الكريم يجدها صفة خاصة لفئة من الناس، أولئك الذين يستضيئون بنور الإيمان بالله، ويهتدون بهدى الإسلام، ويعملون بمقتضى القرآن، مخلصين العبادة لله ، وملتزمين التقوى في جميع أمور حياتهم، لا يخافون في الله لومة لائم .
فالرجولة ليست شكلا ولا نوعا بشريا فحسب.. بل هي أخلاق وممارسات، وأقوال وعبادات ، فأعمار الرجال لا تقاس بعدد السنين والأيام ، وإنَّما بما يخلده التاريخ من مواقف وسلوكيات تعود بالنفع والصلاح للأمة والشعوب والبلدان.
وقد تجلت الرجولة في كامل صورها في أنبياء الله عليهم السلام من أبينا آدم إلى خاتم الآنبياء والمرسلين، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ…) سورة يوسف (109) فالله سبحانه أرسل رجالاً مواقفهم خالدة في محاربة الشرك والضلال والظلم والطغيان، ونشر هدى الله الذي أنزله لإعمار الأرض ضمن حياة تسودها الأمن والإيمان، والعدل والمساواة ، والاستقرار والبناء الحضاري.
وقد حدد الحق تبارك وتعالى صفات الرجولة الحقيقية في قوله تعالى:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) سورة الأحزاب(23).
فالرجولة صدق في الأقوال والأفعال وفي السر والعلن .
والرجولة ثبات على الحق وثبات عند لقاء الأعداء، مهما كلف الأمر، فأما النصر أو الشهادة.
ومن صفات أولئك الرجال أيضا قوله تعالى : (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) سورة النور(37). فالرُّجولة منظومة متكاملة للشخصية السوية للاستخلاف في الأرض والرُّجولة وصف يتعلّق بالروح والنّفس والخلق أكثر مما يتعلق بالبدن والمظهر، فرُبَّ إنسان أوتي القوّة والبسطة في الجسم ولكنَّه يطِيشُ بعقله فيغدو صغيرا أمام الآخرين، ورُبَّ عبد مشلول الجسد مقيّد البدن وهو مع ذلك يعيش بهمّة الرجال والصالحين.
والتاريخ الإسلامي غني بالمواقف الرجولية التي تجسد المعنى الحقيقي لمفهوم الرجولة والتي خلدها التاريخ، وسجلها في صفحاته بأحرف من نور، الرجولة التي تحافظ على القيم الأصيلة، التي تضمن للإنسان حريته وكرامته وعزته.
وتتجسد الرجولة في غيرة حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله وأسد رسوله لما تم معايرته بما عمله كفار قريش بابن أخيه ( محمد)، وكيف كانت ردة فعله.
وتتجسد أيضاً في شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عندما قرر النوم على فراش المصطفى عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام وهو يعلم المصير الذي ينتظره.
ولا يسعنا المقام لسرد المواقف الرجولية التي خلدها التاريخ ولهذا فالرُّجولة لها عدد من المقومات منها:
1 – الإرادة القوية: إنَّ أول ميدان تتجلى فيه الرُّجولة أن يتحلى الإنسان بالإرادة والعزيمة القوية، وأن ينتصر على نفسه الأمَّارة بالسوء، فالرجل الحق هو الذي تدعوه نفسه للمعصية فيأبى وتتحرك فيه الشهوة فيكبحها، وتبدو أمامه الفتنة فلا يستجيب لها، بل يقول إنِيّ أخاف الله، ولنا الأسوة الحسنة في يوسف عليه السلام، حيث كان في قمّة الرُّجولة عندما راودته امرأة العزيز عن نفسها فقال: إني أخاف الله، قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يوسف.آية:(23).
فالرجل الحق هو الذي يقود نفسه وليست هي التي تقوده، ويملكها ولا تملكه، وهذا أول ميادين الانتصار لتحقيق معنى الرُّجولة.
2 – الهمّة العالية: الهمّة العالية هي علامة الرُّجولة ؛ بأن يستصغر المرء التفاهة، ويعمل على قضايا العلم والأخلاق الفاضلة والقيم العليا النبيلة.
3 – النخوة والعزة والإباء: الرجولة أصل الشجاعة والنخوة والإباء، والرجال هم الذين تتعالى نفوسهم عن الذلّ والهوان ، فقد ربّى الإسلام الرّعيل الأول على الشجاعة والعزة والكرامة وهب نفوسهم وضبطها بالتقوى والإيمان.
4 – الإخلاص في القول والعمل: الإخلاص أثقل شيء على النفس، لأنَّ الرجل المخلص لا يحرص على إنجاح العمل بقدر ما يحرص على قبُولِه عند الله تعالى، فتعلو درجته بصدق توجهه إلى الله، والتواري عن أعين الناس ليراه الله وحده، ليحقق بذلك الإخلاص في أعماله وأقواله، سرّا وعلانية، فلا يَتلف باطنه عن ظاهره، ولا قوله عن فعله، الثبات وقت المحن. ولا تعرف معادن الرجال إلاَّ وقت الشدائد، عنها تبرز مقادير الأبطال.
مركز البحوث والتطوير التربوي

قد يعجبك ايضا