تزامناً ،مع قرار أمريكا بفرض مزيد من العقوبات الأمريكية على روسيا على خلفية التطورات العسكرية مؤخراً في أوكرانيا ،والدفع بمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا ،يبدو أن الواقع المؤكد في هذه المرحلة أن كلا الدولتين الروسية والأمريكية تعيشان الآن حالة حرب عسكرية ساخنة جداً قد تتطور مستقبلاً لصدام عسكري مباشر ، وعلى الأغلب سيكون مسرح هذا الصدام العسكري هو الأراضي الأوكرانية أو ما يحاذيها من الأراضي الأوروبية المنخرطة في حلف الناتو ، وهنا نقرأ أن جميع المؤشرات المتولدة من قرار بوتين بتصعييد الحرب في أوكرانيا ، تؤكد بأن الروس بهذه المرحلة تحديداً ، وأكثر من أي وقت مضى اصبحوا بشكل اكثر واقعية تحت مرمى وتهديد مشروع أمريكا وحلفائها ، فهم اليوم باتوا بين مطرقة حلف الناتو الذي بات بحكم الواقع يهدد أمن الحدود الروسية ، ويشكل خطراً محدقاً بأمن المنظومة العسكرية الروسية ، وخطر خسارة أوكرانيا لصالح الغرب ، واحتمال فقدها لكثير من مناطق نفوذها بالشرق الأقصى والشرق الأوروبي وبالشرق العربي ، وسندان تقويض جهودها التوسعية والوصول إلى مناطق ومراكز نفوذ جديدة والاستغناء عن مراكز نفوذها القديمة لصالح القطب الاوحد الأمريكي والانكفاء على نفسها ، وليس بعيداً عن كل ذلك الملف السوري وغيره من الملفات وخصوصاً الثروات الطبيعية وملفات حقول الطاقة بالدول التي تتحالف مع الروس “الثروات الطبيعية الإيرانية – كمثال” ، ومن جهة أخرى يدرك الروس حجم المؤامرة الأمريكية ، والتي أفرزت ما يسمى “بحرب النفط” ، والتي تستهدف إركاع القوة الروسية .
البعض يعتقد ان الروس كسبوا عندما انفصلت شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا أو ان الروس سيكسبون أيضا عندما أعلنت بعض مناطق الشرق الأوكراني انفصالها عن أوكرانيا ، وهذا الموضوع بالذات هو خسارة كبيرة لروسيا والروس انفسهم يدركون ذلك فهم خسروا ما كان بالأمس يحسب بالمطلق عليهم وربحوا اليوم جزءاً من ما كان بالأمس يحسب عليهم ، فهم خسروا تقريباً الكل واستطاعوا ان يعيدوا جزءاً من الكل لهم وهذا بتحليل وقراءة الجغرافيا السياسية وبعلم السياسة الدولية هو خسارة سياسية وأمنية فادحة بالنسبة للروس ، فاليوم هم اصبحوا شبه محاصرين فمن الشرق والشمال نصبت الدرع الصاروخية الأمريكية والجنوب والغرب بدأ تدريجياً يخرج عن نفوذهم ، وبوتين نفسه يدرك حقيقة هذه الأخطار.
والسؤال: هل ستسمح روسيا لأمريكا بأن تملي عليها وتفرض عليها واقعاً جديداً؟؟. وخصوصاً بعد تعهد أمريكا باستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا ، فاليوم الروس يواجهون مشروعاً غربياً الهدف منه تقويض الجهود الروسية في الوصول إلى مراكز قوى جديدة ومناطق نفوذ أوسع تحقق لهم قوة دراماتيكية على الصعد السياسية وحينها ستكون روسيا واحدة من القوى الأكبر دولياً المؤثرة أكثر من أي وقت مضى بصناعة القرار الدولي ، فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي وانقسام جمهوريات الاتحاد إلى كانتونات متفرقة ومع تعدد انتماءاتها وولائاتها ، أصبح الغرب يتطلع أكثر وأكثر إلى كسب هذه الجمهوريات إلى صفه لتكون ورقة ضغط على الروس في أي تسويات دولية مقبلة لتقاسم مراكز القوه والنفوذ والثروات في العالم ، وحينما ادرك الروس ان الغرب تمادى اكثر واكثر بهذه الممارسات الاستفزازية ، وبدأ الحديث عن نظام الدرع الصاروخي المنصوب شرقاً وعلى مقربه من الدولة الروسية في بعض الجمهوريات التي كانت تحسب عليهم في حلفهم واتحادهم السابق وهو الاتحاد السوفيتي في بعض جمهوريات الشرق الأوروبي وبعض دول الشرق الآسيوي ، بالإضافة إلى تركيا وبعض دول جوارها الأوروبي ، حينها ايقن الروس وأخذوا القرار بأنهم عليهم التكشير عن أنيابهم أمام هذه الغزوة الكبرى والتهديد المحدق بهم.
في مطلع شهر آب من عام 2008م قامت القوات الجورجية بهجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي أبخازيا وجنوب أوسيتيا المواليتين للروس ، وبعدها قامت القوات الروسية بهجوم مضاد سريع وعنيف على جورجيا لتحسم المعركة بوقت قصير جداً ، ويعلم جميع المتابعين بخفايا ما وراء الكواليس ان الروس لم يقرروا الولوج بمعركة جورجيا إلا لايصال رسائلهم للغرب وأمريكا ، وحينها وصلت الرسالة وبدأت هذه الدول وخصوصاً أمريكا بإعادة دراسة لسياستها الخارجية اتجاه روسيا بعد حرب جورجيا ، بعدما وصلتهم الرسالة الروسية شديدة اللهجة والإنذار الأخير لهذه الدول بأن روسيا سترد على كل من يهدد أمنها ومراكز نفوذها ، فمنذ تلك الواقعة نرى الموقف الغربي في تشدد أحيانا اتجاه روسيا ببعض قضايا دولية وبتوافق بأحيان أخرى وبخلاف سياسي ببعض حالات ، مع العلم أن هناك مجموعة من الخلافات حصلت بعد حرب جورجيا خلافات دبلوماسية أحيانا واقتصادية أحيانا أخرى وأمنية ببعض أحيان وتشابك وتعقيدات ببعض الملفات مثل ملف ايران النووي وكوريا الشمالية وافغانستان وغيرها من الملفات.
في مطلع عام 2011 ، أنطلق ما يسمى “الربيع العربي” وبدأت هنا مرحلة جديدة فمراكز النفوذ بدأت بالتحول ومراكز القوى تغيرت، وهنا قرر الغرب انه يجب إعادة تقسيم الكعكة العربية ، ومن هنا انطلقت أولى هذه الخلافات حول الربيع العربي وتوزيع مراكز القوى فيه ، بين الغرب وروسيا ، وأولى هذه الخلافات كانت في ليبيا وعندها طعنت دول الغرب روسيا بالظهر في ملف ليبيا وحينها خسر الدب الروسي مركز نفوذ في المغرب العربي وشمال إفريقيا كان يشكل عامل أمان للروس وقوة في هذه القارة ومعبر أمان للدولة الروسية للاتساع والولوج اكثر بعلاقاتها مع باقي دول المغرب العربي وشمال إفريقيا وشرقها فبعد ان ادرك الروس أنهم طعنوا من دول الغرب وادركوا ان هناك مؤامرة كبرى تستهدف مراكز نفوذهم بالمنطقة العربية .
وعندما أتسع نطاق هذا الربيع العربي ووصل إلى سوريا برزت إلى الأحداث “الورقة السورية” وهنا استمات الروس بالدفاع السياسي والامداد اللوجستي العسكري والاقتصادي للدولة العربية السورية وجيشها العربي ، ومن مبدأ انها اذا خسرت سوريا فأنها ستخسر نفوذها وقاعدتها الأخيرة وحلفها الأخير مع دول المشرق العربي ، فهي بسوريا تسير بخط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك لانها تدافع عن نفسها اليوم من سوريا فاذا سقطت سوريا فالروس يدركون ان الهدف القادم للغرب ولو تدريجياً سيكون روسيا ولذلك هم اليوم يستميتون بسوريا، فساسة وجنرالات موسكو يؤكدون بمواقفهم أنهم يسيرون بسوريا بخط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك ، ومن مبدأ أن موسكو تدافع عن نفسها اليوم من دمشق فاذا سقطت دمشق فالروس يدركون أن الهدف القادم للغرب ولو تدريجياً سيكون موسكو ولذلك هم اليوم يستميتون بسوريا ، فهم ادركوا حقيقة المؤامرة الكبرى عليهم أولاً وثانياً على الدولة السورية.
ختاماً ،يبدو واضحاً أن روسيا لن ترضخ أمام كل هذه الضغوط ، التي تفرضها عليها واشنطن وحلفاؤها عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً ، والواضح أن الدب الروسي كشر عن أنيابه من جديد ليعيد الكرة إلى الملعب الأول عن طريق الولوج بمعركة مفتوحة سياسية وعسكرية غير مباشرة مع قوى الناتو والهدف من هذا العمل العسكري في أوكرانيا ،هو ايصال رسائل موسكو مجدداً للغرب وحلفائه بأن الروس موجودين ولن يتنازلوا وسيستمروا بالتوسع بكل الاتجاهات ، والمرحلة المقبلة من المؤكد انها ستعطينا صورة أوضح لملامح وشكل موازين القوى بالعالم الجديد التي يتم صنع موازين القوى ومراكز النفوذ فيه من جديد.
*كاتب وناشط سياسي – الأردن.
hesham.habeshan@yahoo.com