خليل المعلمي

حساسية الروائي وذائقة المتلقي.. الاندماج مع الآخرين

 

تعتبر القراءة وجهاً من وجوه القراءة التأملية المفتوحة في عالم الرواية يعيد التفكير فيما أغلق النقاش عنه ويثبت مجدداً عظمة الأفكار الخالدة، فالولوج إلى عالم الرواية الرحب هو خروج من عالم الواقع الضيق.
يسرد لنا الكاتب عبدالباقي يوسف في كتابه “حساسية الروائي وذائقة المتلقي” الكثير من أسرار وتفاصيل عالم الرواية التي تبني علاقة شخصية وسحرية شديدة الخصوصية تخلقها حساسية الروائي وتتفاعل معها ذائقة المتلقي، متناولاً بعضاً من تاريخ الرواية من خلال أسماء كبار صنّاعها ومؤسسيها ومبدعيها، بلمحات من سيرهم الحياتية، ومواقف تفسر تفرد شخصياتهم المبدعة.
كما يكشف شيئاً من أسرار الرواية النسوية من خلال فحص فوارق الإبداع وخصوصياته وتمايزه في الأدب الذي تبدعه المرأة.
ويتكون الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية الأول يتناول حساسية الروائي، فيما يستعرض الثاني أعمدة الرواية في العالم، ويتحدث في الثالث عن أسرار الرواية النسوية.
حساسية الراوي
في استهلال الفصل الأول يقول المؤلف: إن الدخول إلى عالم الرواية هو انفتاح على عالم جديد ولهذا فإن عالم الرواية يستقطب جمهوراً هائلاً من مختلف الشرائح لأن هؤلاء بالفعل يرغبون في قراءة ذواتهم من خلال قراءة الرواية التي تتحول في بعض مراحلها –كرواية التحليل النفسي على يد دستويفسكي وتولستوي وستيفان زفايج، ورواية تفاصيل واقعية الحياة الشخصية على يد بلزاك- إلى مرآة ينظر فيها القارئ إلى ذاته بنقاء.
فالرواية تقدم شخوصاً يمكن أن نتعلم منهم، ويمكن أن نحذو حذوهم في العقل والحرية والجنون معاً لأن الرواية عالم صادق جريء ويحمل كل حساسيات الإنسان تجاه قضية النقاء الروحي وتجاه الشفافية الإنسانية التي بات يفتقدها إنساننا المعاصر.
عالم الرواية
وعن عالم الرواية يقول المؤلف: عندما نقرأ الرواية نحتاج إلى رؤية عالم لم نره ولم نقرأ عنه من قبل لدى شروعنا في قراءة رواية جديدة، ذلك لأن الرواية معنية بفتح عالم جديد أمام قارئها، فالرواية التي لا تحمل بين غلافيها شمساً وقمراً ونجوماً وبحاراً وصيفاً وربيعاً وخريفاً وشتاء، كثير عليها أن تحمل اسم رواية.
ويتابع: إن الرواية تحمل عبق الإنسان، تحمل رائحته الزكية، إنها أكثر الحالات صفاءً وانسجاماً مع تفاصيل الحياة، تتغلغل الرواية في أعماق أرضها سنوات طويلة من العواصف والرعود والأمطار وتقلب الفصول حتى تخرج إلى النور حاملة ريح الأرض والناس والبيئة التي ولدته فيها.
وتحقق أي رواية في العالم الخلود على قدر ما تتفوح بروائح ترتبها لأنها تقدم زمناً وأرضاً ومجتمعاً، ولذلك فإن الصدق ينفجر من أكثر الكتابات التصاقاً بتفاصيل المحلية، وليس ثمة سبيل أقرب إلى العالمية من محلية الأفكار والتعابير، فالرواية هي الإنسان وهي كتاب الحياة الأكثر إضاءة ووضوحاً إنها السراج إلى الأعماق المظلمة، وعبر تاريخها المضيء حاولت الرواية أن تقدم الإنسان إلى نفسه وتسعى للدفاع عن حريته وعن حقه في حياة كريمة.
ويأخذنا المؤلف إلى الحديث في هذا الفصل عن العلاقة بين شخصية الراوي وشخوصه الروائية، متطرقاً إلى العلاقة بين الأدب والنقد والتي يعتبرها علاقة جمالية فنية ذوقية تكاملية، يغتني الأدب بالنقد، كما يغتني النقد بالأدب، فعندما يتحدث الإنسان جملة، فإن هذه الجملة تتولد لديه ولدى مستمعيه عدة جمل من النقد والتحليل والتأويل.
من أعمدة الرواية في العالم
يؤكد المؤلف أننا مع قراءة الرواية نشعر بأننا نقرأ، ونتعلم، ونسمع الموسيقى، نتذوق إيقاع الكلمات، نشاهد المدن والهضاب، والطرقات المزدحمة بالناس، نتذوق طعم ولون الجمال، ندخل غرف النوم المخملية، الرواية الجيدة هي تلك التي تستطيع أن تحقق لقارئها كل هذه الميزات، وإن لم تتمكن من ذلك فإنها تكون رواية أقل من مرتبة الجيدة.
ويشير المؤلف إلى أن تاريخ الرواية غني بأسماء كبار صنّاعها ومؤسسيها ومبدعيها، وكل روائي ترك بصمة على الفن الروائي، وأرّخ لمرحلة جديدة من الرواية، وقد حظيت بأعلى نسب من تحقيق الجوائز، ومناسبات الاحتفاء بها، كما أنها قدّمت إلى العالم جواهر الفن السينمائي، وفيما بعد التلفزيوني، وحققت نسباً عالية في الحصول على جائزة نوبل للآداب، وهي تحقق أعلى النسب في المبيعات في معارض الكتب التي تقام في شتى أنحاء العالم.
لقد حققت الرواية حضوراً ذهبياً بين زميلاتها الأجناس الأدبية الأخرى، فكانت الكتابة الأكثر إقبالاً عليه الذي يستأنس به القارئ ويتزود به من ألوان المعارف والمشاعر الإنسانية.
ومن الشخصيات الروائية الكبيرة التي قدمها في هذا الفصل كعناوين فرعية كالتالي: “مدارج الدخول إلى عالم فرانز كافكا الروائي”، “المركيز دي ساد.. النزوع السادي في الرواية”، “دينو بوتزاتي.. قوة الإصرار على العمل”، “ستيفان زفايج.. الروائي الذي تناول تفاصيل النفس البشرية”، “غابرييل غارسيا ماركيز.. الروائي الذي أحب في زمن الكوليرا”، “يوكيو ميشيما.. إيقاع الحياة الروائية”، “كنزا بورو أويه.. دفق شاعرية الخيال”، “ماريو بارغاس يوسا.. بين الرواية والسياسة”، “وليم فوكنر.. البحث عن البراءة المفقودة”.
وقد افسح المؤلف مساحة عن حياة هذه الشخصيات الروائية وأساليبهم المميزة في كتابة الرواية وطرق تقديمهم للشخصيات الروائية.
أسرار الرواية النسوية
وقد خصص المؤلف الفصل الثالث للحديث عن الرواية النسوية وهي الرواية التي تكتبها المرأة، وتقدم فيها المرأة من كونها امرأة، هذا التقديم الذي يكسب خصوصية كونه يأتي بقلم المرأة التي هي أبلغ وأدق تعبيراً عن نفسها من الرجل، ومن هنا كان مصطلح “الأدب النسوي” الذي أحدث وما يزال يحدث الكثير من الجدال حول مشروعيته.
ويركز المؤلف على وجود فوارق الإبداع وخصوصياته وتمايزه في الأدب الذي تبدعه المرأة سواء في الدول العربية أو في كافة دول العالم، مشيراً إلى أنه من الطبيعي أن يكون أدب المرأة غنياً بمزاياها في أي منطقة من العالم، ومعبراً عن وجهة نظر وقلق ومشاعر المرأة بصفة عامة، وهو على الأغلب يكون أكثر ثراءً بتفجير العواطف ومسألة الإخلاص والعفاف في الحب.
ويؤكد المؤلف أن قراءة أدب المرأة يجد اختلافاً كثيراً عندما يتم قراءة أدب الرجل ذلك أن الخصوصية في الأدب النسوي والتمايز الإبداعي بين الأدبين يكمن الثراء في الإبداع وتكون المرأة مبدعة أصيلة ومتميزة إلى جانب الرجل في ثنائية إبداعية مكملة لبعضها.
وحيث أن المرأة تميل إلى سردية الحكي أكثر من ميلها إلى العبارات المختصرة بحسب رأي المؤلف، فقد اغتنى تاريخ الرواية بأسماء روائية هامة، وبشكل عام فإن المرأة حققت نجاحات هامة في مجال الرواية أكثر من بقية المجالات الأدبية، وحققت الرواية النسوية جائزة نوبل للآداب على أيدي الكثير من الروائيات، ويمكن القول إن المرأة سجلت حضوراً لافتاً في مشهد الرواية العالمي، وقد حصلت على جائزة نوبل للآداب في أكثر من بلد في العالم.
واستعرض المؤلف أسماء عدد من الروائيات اللواتي أثرين الأدب النسوي من مختلف العالم، وهن “اجاثا كريستي، توني موريسون، سيمون دي بوفوار، شارلوت برونتي، جورج ساند، فرانسواز ساغان”، ولم تكن هذه إلا أمثلة قدمها المؤلف في كتابه، متطرقاً إلى أعمالهن الإبداعية المتميزة ومستعرضاً بدايتهن في الأدب وحياتهن والأفكار المعروضة في أعمالهن الإبداعية.
وفي ختام الكتاب يؤكد المؤلف أن أي كاتب في العالم لا يستطيع أن ينجح في مهمته قبل أن يتوحد في حالة إنسانية عامة مع الآخرين في كافة أنحاء العالم، فالكاتب يقدم نزعات إنسانية عامة، ويسعى إلى تبرئة الإنسان والصلح العام بينه وبين الطبيعة، ببساطة شديدة، إنه يدعو لأن يكتشف الإنسان الطبيعة التي ولد فيها، ويتعرف فيها على ما لا يعرف.. وأن يسافر إلى أخيه الإنسان المحتاج في أبعد بقعة محملاً بالهدايا.

قد يعجبك ايضا