تابعت باهتمام بالغ المقابلة التلفزيونية التي أجراها الزميل نادر الكميم مع فضيلة العلامة القاضي أحمد يحيى المتوكل رئيس مجلس القضاء الأعلى ، والحقيقة أن الرجل تحدث بشفافية عن قضايا كثيرة ، وأبرز بعض الخطوات التي تم الإقدام عليها في الفترة الأخيرة ومنها إعادة ترتيب القضاء وتحديد الاختصاصات ، وهذا هو مربط الفرس، فالاختصاصات للأسف لا تزال مضطربة، ولعل القاضي أحمد أكثر فهماً بوجود تداخل كبير ، خاصة في ظل فوضى التكالُب على الأراضي ، فالمحكمة العسكرية تتدخل فيما لا يعنيها وليس لها ولاية عليها لأنها قضايا مدنية بحتة، أو لنقل من اختصاص المحكمة الجزائية المتخصصة ، وكم من هذه القضايا يكون المواطن المسكين ضحيتها ويتنقل بين محكمة وأخرى لكي يُرضي غرور القضاة ، وهناك قضايا كثيرة يتم التعاطي معها بهذا المستوى، فهناك قضايا مثلاً منظورة أمام المحكمة التجارية ثم يظهر طرف عسكري فيها وإذا بالمحكمة العسكرية تتدخل لتفسد كل ما وصلت إليه المحكمة التجارية ، وهذا كله عبث بوقت ومال وتفكير المواطن المسكين الذي يبحث عن العدل والإنصاف ، وكم كنت أتمنى أن القاضي أحمد أدرك هذه الحقائق ، إضافة إلى ذلك التساؤل الذي طرحه المذيع عليه والمتعلق بسرعة البديهة لدى القاضي وقدرته على تحديد المهم فالأهم في القضايا ، فكما نعرف أن الجميع اليوم وفي ظل غياب الخوف من الله سبحانه وتعالى والتكالب المحموم على اكتساب الأراضي ، الكل لا يقتنع بحكم الدرجة الأولى ، لكنه يواصل المشوار إلى الثالثة ، وإذا عجز في الثالث ذهب إلى ما يُسمى بمحكمة السبعة أو محكمة الرئيس ، لأن القناعة غير موجودة ورغبة الإنصاف غائبة، إذاً فالكل في ميدان السباق وشراء ضمائر القضاة أو أمناء السر في أضعف الحالات ، وكلها للأمانة حقائق تبعث على الاستياء وتحبط كل الإنجازات في الجوانب الأخرى ، لأن بقاء القضاء على هذه الشاكلة يعني السماح للفساد بأن يستشري بشكل واسع جداً يشمل القاضي والمساعدين والخصوم والمحامين وكل من له علاقة بالتقاضي ، فالكل يبحث عن مكسب والكل لا يتورع عن الأخذ طالما أن ملف القضية في يده .
هنا نقول لمجلس القضاء، عليكم التحري والدقة ، فالأمور وصلت إلى حد لا يُطاق ، وإلى مستوى غير مقبول تماماً خاصة أن الكثير من القضاة لا يقرأون الملفات ويمعنون النظر في محتوياتها ، بل يعتمدون على ملخصات أُمناء السر ، وهذا يعطي أمناء السر الفرصة للتلاعب والتواصل مع الخصوم وفتح المزاد للمتاجرة ، يا إخوة القضاء وصل إلى مرحلة فعلاً رديئة وغير واضحة ، بل واضحة من جانب واحد فقط وهو الأخذ والمساومة وفتح المجال للفساد بكل قرونه الشيطانية ، أضف إلى أن هُناك قضاة الفهم لديهم بطيء وهذا يعود إلى مرحلة اختبارات القبول في معهد القضاء ، فلجان الاختبار لا تركز على مستويات الفهم والإدراك وسرعة البديهة بقدر ما تُركز على أشياء جانبية أو الشهادات أو ما شابه ذلك ، وأحياناً حامل شهادة الماجستير يُقصر في الإملاء فكيف سيكون القاضي في هذه الحالة ؟ وما هي نتائج أعماله حينما يتربع على كرسي القضاء؟! الحقيقة أن مجلس القضاء يبذُل جهوداً كبيرة ، لكن تكمن اليوم في هيئة التفتيش القضائي فهي تعمل بشكل روتيني بطيء جداً وعلى قاعدة ادهن ظهري أدهن ظهرك ، فاليوم المفتش في الهيئة وغداً سيكون قاضياً، ولابد أن يُراعي من سيأتي خلفه في نفس الموقع ليتقيه عندما ينتقل إلى كرسي القضاء، لا أقول هذا الكلام من باب التهكم أو الاستهتار ، لكن الشواهد كثيرة والأمثلة أكثر والمجلس لابد أن يُغادر الدائرة المستديرة والاجتماع الأسبوعي المُمل الذي أصبح مُجرد تكرار لموضوع واحد ، النظر في تظلمات القضاة ، ترفيع القضاة ، وفي النادر يأتي في الخبر إحالة قاضي إلى المساءلة القانونية ، وهذا النادر لا حُكم له، كما يُقال ، مما يجعلنا نضع المشكلة برمتها أمام المجلس ورئيسها الموقر الذي لا نشك قيد أنمله في سلامة نواياه وحرصه على أن تسير الأمور بشكل سليم ، إلا أن الواقع ملوث والمُخرجات كلها غير سليمة ، إلا من رحم الله من القضاة الذين لا يزالون يحرصون على إحقاق الحق وإنصاف الخصوم ، وهذه التجارب قليلة جداً أمام الغُثاء الواسع ، وكم أتمنى لو تُعطى حقها في التقدير والعائد المادي، خاصة في ظل توقف المرتبات والاعتماد على ما يُسمى بالنفقات التشغيلية، ، وهي ثغرة من ثغرات الفوضى والتمايز وعدم إحقاق الحقوق لأنها في النهاية تخضع لمزاج المسئول الأول ، ليس في القضاء فقط ولكن في كل المؤسسات ، ولو أنها أضيفت إلى بعض النفقات الأخرى التي يتم صرفها شهرياً لكانت كافية لدفع المرتبات ، البعض قد يقول هناك العديد من الموظفين في المنازل ، وهذا صحيح ولم يختر أحد منهم هذا الموقع بنفسه ولكنه أُجبر عليه ، والراتب حق مكتسب لا يُمكن التنازل عنه أو التفريط به .
إذاً نقول للإخوة في مجلس القضاء المسؤولية عليكم كبيرة ، والفوضى في المحاكم سائدة ، وعمليات السلب والنهب لا تتوقف ، والمواطنين يشكون الأمرين ، فالمحكوم له مثلاً لا يجد من يُنفذ الحكم الذي بيده ، وأحياناً يكون الخصم من أصحاب النفوذ والجاه ولديه مسلحين ، فيتحول الحكم إلى مجرد حبر على ورق ، وهذا كما قُلنا بحاجة إلى لفتة كريمة من المجلس السياسي الأعلى ، بحيث يتم تشكيل فريق عمل يتولى تنفيذ الأحكام الباتة ، حتى لا تضيع الآمال وتذهب الحقوق في مهب الريح ، أرجو إمعان النظر في هذا الكلام والاهتمام ببعض ما جاء فيه كمدخل لإصلاح القضاء إن كان هناك نية للإصلاح ، كما أرجو أن تتوفر هذه النية لدى كل المسؤولين في الدولة .. والله من وراء القصد .