في كثير من المجالس تسمع أو تحس من نبرة الحديث أن هناك من يعيش بالتفاؤل مهما كانت الظروف وآخر تستولي وتغلب على حديثه النظرة التشاؤمية ولو لم يوجد ما يدعو له وغالباً ما يكون هذا وذاك ممن يحرثون البحر دون محراث أو يُحلّقون في السماء دون أجنحة ولهذا فتشاؤم هؤلاء أو تفاؤل أولئك غير مبنيين على أساس منطقي أو بمعنى آخر كلا الحالين إنما يعبران عن محاولة الهروب من رؤية الواقع كماهو لا كما ينبغي أن يكون عليه أي هروب من الواقع إلى الحُلم أو العكس، وفي اعتقادي أن الموقف الأكثر إيجابية هو موقف من يصر على رؤية الواقع دون أن يستسلم له مهما كانت سلبياته وسوداويته ويعمل قدر استطاعته على فهمه لتغييره للأفضل صحيح أن قدرات الناس في ذلك تختلف باختلاف الأشخاص وظروف الزمان والمكان إلا أن من الواجب أن نحاول جعل هذا الموقف ثقافة لما يترتب عليها من آثار إيجابية في المستقبل من حيث تنمية القدرات وتعلم الصبر على مواجهة المكاره واحتمالها والعمل على تجنبها والتقليل من آثارها ، ولا أخفيكم أنني أتعاطف مع كثير من الأشخاص الذين يزعجهم حديث من يعبّرون عن تشاؤمهم من واقع الحال لأنه يعشق السكون ويحاول إيقاف الحديث للتأمل الرومانسي في جمال الحياة فهو يبحث عن مخدر للجروح لاعن دواء ناجع ينظف الجزء الميت فيها ويظهر الحي بما يتبع ذلك من ألم قد لا يطول على العكس ممن يهربون من العملية الجراحية إلى تخدير الألم بما يبقي أسبابه لمدة قد تطول ويؤدي لما هو أخطر، من المؤكد أن الفاصل الغنائي أو النشيد المناسبين يعطيان فرصة لاستعادة النشاط الذهني المنهك بالتحليق في عوالم السياسة وممارسات من يسيء إليها.
وفي كل الأحوال فإن أسباب التفاؤل والتشاؤم وتبعاتهما تختلف عمّا إذا كانت المسألة متعلقة بتسيير الشأن العام أم بالحياة الخاصة، ففي الشأن العام يفترض أن لا تخضع عملية تسيير سلطات الدولة للمزاج الشخصي للحاكم أو للآيدلوجيا التي يعتنقها أو يتبناها وإنما إلى منهج علمي تتضمنه قوانين تطبق على الجميع دون أدنى تمييز ،فالدول بعد تجارب مريرة من الحروب والمعاناة من أشكال الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية والاستبدادية الدينية أو القومية أو الوطنية أو العرقية أو غيرها متعددة الأشكال والألوان بما فيها المحكومة بشكل النظام الملكي بل والامبراطوريات في البلدان التي امتلكت قسطاً من التقدم جميع هذه الدول التي عانت من الحروب واكتوت بنارها وصلت إلى قناعة كاملة بأن أفضل أشكال الحكم إيجاد مؤسسات عامة تنتج وتتطورعن طريق التداول السلمي للسلطة والانتخابات الديمقراطية الحرة والنزيهة ، أما القول بأن الشعوب الأقل وعياً لا تصلح للديمقراطية أو لا تصلح لها إلا ديكتاتورية عادلة كما يطلقون عليها فهذه مقولة ساذجة ليس لها أساس علمي لأنها ببساطة تقوم على تبرير هش وهو أن هذه الشعوب تتعرض لاستغلال مستوى وعيها المتدني، وهذا التبرير تضعه الطبقة الحاكمة المستبدة ذاتها عدوة الديمقراطية والمستفيد من حالة الوعي المتدني والتي تعمل على استخدام واستغلال السلطة في تجهيل المجتمع بمختلف الأساليب للمحافظة على بقاء المبرر والبيئة المناسبة لاستغلاله،
وما يطور وعي المجتمع ويقضي على الجهل هو صقل تجارب ممارسة الحياة العامة عن طريق مزيد من الديمقراطية لأنها ملك الجميع ولا تنمو وتزدهر إلا بمشاركة الجميع في تطوير أساليبها وفي قدرتهم على اختيار الحكام وتغييرهم بوسائل ديمقراطية سلمية بديلا عن وسيلة العنف والدماء وهذا هو جوهر ثقافة الدولة المدنية المنشودة.
ويعتمد التشاؤم والتفاؤل في الحياة العامة وتسيير الشأن العام على تطبيق مبدأ سيادة القانون لأنه يخضعها لمسيرة وحركة المؤسسات العامة وللأبحاث والدراسات التي تعمل على استخلاص أسباب التفاؤل فتزيد منها وأسباب التشاؤم فتنقصها أو تقضي عليها.
أما الحياة الفردية الخاصة فإن تطور الفرد وإنماء قدراته وثقافته وأساليب زيادة إنتاجه فتقوم أساساً على امتلاك كل فرد حريته بتفاصيلها العامة والخاصة تربطه فيها بالمجتمع علاقة التوازن بين الحقوق والواجبات، ومساحة التشاؤم والتفاؤل في الحياة الفردية الخاصة خاضعة لتقديرات الفرد وتجاربه الخاصة باعتبار ممارستها حق أساسي من حقوقه، ومن وظائف مؤسسات الدولة دعم الأفراد وتعزيز قدراتهم وفي ذلك دعم مؤكد لزيادة الإنتاج القومي وهذا الدعم مسؤولية المؤسسات العامة المنوط بها القيام بكل ما يتعلق بالوظيفة العامة التي وجدت خدمة للفرد والمجتمع لا لاستبداده والتسلط عليه.
في خاصرة الوطن المحاصر
بالكائنات التي تصنع التوابيت المقدسة
اليقين يصنع الموت
والحرية هي الأصل
هكذا قالت الحياة.
