شهد السودان ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حروبا وصراعات أهلية دارت في أطراف نطاقاته الجغرافية، لكنها المرة الأولى التي تشهد عاصمته) الخرطوم) حرب شوارع وهي المدينة التي يقطنها أكثر من عشرة ملايين مواطن، وكانت طيلة سنوات الحروب السودانية ملاذا آمنا لمواطنيه الذين كانوا ينزحون من مناطق القتال إلى العاصمة الخرطوم..!!
حالة من الدهشة والذهول لا شك يعيشها أشقاؤنا في السودان، غير أن الأكثر دهشة في المشهد هو موقف دول الجوار السوداني، وأيضا مواقف العواصم العربية والإسلامية والدولية من أحداث السودان، والفتور الذي قوبلت به هذه الأحداث من قبل هذه الدول وخاصة العربية والإسلامية منها، التي تبدو وكأنها غير مكترثة لما يجري بالخرطوم رغم خطورة ما يجري وتأثيره على هذه الدول والمنطقة وعلى الأمن والاستقرار الدوليين..!
لا شك أن أحداث السودان تدخل في نطاق الصراع الجيوسياسي الذي يعتمل على خارطة العالم بين الثلاثي المحوري المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية، وهذه المحاور تخوض معارك متعددة ضد بعضها وعلى مختلف المستويات وداخل قارات العالم الخمس، إذ لا يمكن فصل تداعيات الأحداث السودانية عن معركة التنافس المحموم بين هذه الأقطاب الثلاثة وسياسة استقطاب الأطراف الإقليمية التي تمارسها هذه المحاور في أفريقيا وآسيا والوطن العربي وصولا لدول أمريكا اللاتينية، ويبدو أن رعاية الصين للاتفاق السعودي -الإيراني، وبدء التفاهمات العربية مع سوريا، والهدنة اليمنية وإن كانت هشة، إضافة لما يعتمل داخل (الكيان الصهيوني)، كل هذه الأحداث مرتبطة ببعضها إقليمياً وهي حصيلة المواجهة الجيوسياسية والعسكرية التي تبدأ في أوكرانيا، مروراً ببحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وصولاً للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، ومن بحر العرب حتى البحر المتوسط والبحر الأسود، أحداث تمثل بكل أسبابها ما يمكن وصفه بـ(مخاض ميلاد عالم متعدد الأقطاب) من ناحية، ومن الأخرى يعبِّر عن ضعف النظام الدولي القائم وفشله في التعبير عن شرعيته التي صادرتها (واشنطن) ومن ثم حاولت أن تضع نفسها وشرعيتها بديلاً عن الشرعية الدولية..!
في السودان ليست القضية بين (البرهان) و (حميدتي) مع أن الأول يمثل جهة سيادية هي القوات المسلحة السودانية، فيما الثاني يمثل (مليشيا) تم ابتكارها في مرحلة تاريخية من مسار السودان ولغاية محددة، إلا أن تطورات الأحداث في هذا البلد العربي _الأفريقي جعلت من قوى (حميدتي) قوي رديفة وموازية للجيش والدولة ليبرز دورها في لحظة صراع جيوسياسي وأزمة داخلية سودانية أخفق أطرافها في الاتفاق فيما بينهم وهو الفشل الذي حاولت قوى التأثير وهما الجيش والتدخل السريع تحويله إلى جسر للعبور للقصر الجمهوري الذي يحاول كل طرف امتلاكه والسيطرة على السودان من خلاله في ظل ضعف الفعاليات السياسية السودانية التي بدت عاجزة أمام الحرب التنافسية على السلطة وليست حربا من أجل السودان وشعبه وكرامتهما وسيادتهما ومصالحهما، وفيما يمتلك (البرهان) شرعية سيادية وطنية، باعتباره يمثل المؤسسة العسكرية، يمتلك الآخر قدرات مادية اكتسبها من الثروة السيادية للشعب السوداني، ناهيكم عن علاقة خارجية داعمة بصورة أو بأخرى، فيما الانتهازية السياسية والنزوع النرجسي يكادان يكونان هما الطاغيين في سلوك الإخوة الأعداء الذين وضعوا مصالحهم الشخصية ورغباتهم في السلطة ذات أولوية على مصلحة الشعب السوداني وعلى أمن واستقرار السودان وسيادته وسلامة جغرافيته وتماسكها، ليخوض الطرفان مواجهة مصيرية يستحيل عليهما أن يتراجعا عنها، لأن تراجع أي طرف فيها يعني نهايته..
بيد أن فشل إنهاء هذه المواجهة الدامية له علاقة مباشرة بحسابات أطراف وجهات خارجية، فيما إقدام دول العالم على سحب وإجلاء رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية من السودان مؤشر خطير ويدل على رغبة الأطراف الدولية الفاعلة في إطالة أمد الصراع الأهلي في السودان، ربما حتى تتضح معالم الصراعات في نطاقات جغرافية أخرى، وحتى تجري محاور النفوذ جردة حساب وفق جدلية الربح والخسارة لمناطق النفوذ..!.
إقليمياً تحفظت (القاهرة) و(الرياض) عن أحداث السودان، وحياد القاهرة التي يهمها السودان ويهمها ما يجري فيه، لم يأتِ جزافا أو بدافع اللامبالاة، بل هناك ما هو مستور دفع القاهرة لاتخاذ هذا الموقف ومثلها حذت (الرياض) ما يعني أن هناك أطرافاً دولية نافذة تحرِّك أحداث السودان.. وهذا ما سوف تكشف عنه تطورات الأحداث في بلد عربي أفريقي غني بالثروات والموارد الطبيعية وإن لم تكن أطراف دولية محركة لهذا الصراع فهناك (شركات دولية عابرة للقارات) لن تكون بعيدة وهي قادرة على اختلاق الحروب والصراعات وتقسيم دول وإلغاء أخرى من على الخارطة في سبيل مصالحها.