إطعام على موائد القرآن
5 – الإطعام.. أول مصاديق الإيمان في ثلاثية البر
إبراهيم محمد الهمداني
يعد مفهوم البِرِّ من المفاهيم الدينية، ذات المعاني والدلالات المتعددة، التي تلتقي في مجملها، على قاعدة مطلق الإيمان الصادق، ومطلق الإحسان المتواسق، ومطلق الخير المتلاحق، أي أنه إخلاص الإيمان الاعتقادي القلبي، بكل ما أوجب الله تعالى الإيمان به، والاتساع في الإحسان – بمعناه الواسع – وفعل الخير في مقاصده الشاملة، وتحقيق العبادات باليقين والصدق والتقوى، وحين يتطابق القول والفعل والضمير، يتحقق معنى البر المراد في القرآن الكريم، في قوله تعالى:- «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ». (البقرة:١٧٧).
من لطائف التعبير القرآني – في سياق طروحاته المفاهيمية – أنه يبدأ أولا بنسف ودحض المفهوم السائد الخاطئ، ثم يقيم على أنقاضه، تأسيسا مفاهيميا جديدا صحيحا، كما هو الحال عند تناوله مفهوم البر، في موضعين، بادئا بنفي التصور السائد الخاطئ، بقوله تعالى:- «ليس البر»، ومستدركا في طرح التصور الحقيقي، بقوله تعالى:- «ولكن البر»، الأمر الذي يجعل العقل الجمعي، يقف وجها لوجه، أمام اعتقاده المنحرف وسلوكياته الخاطئة، وبذلك تقوم عليه الحجة، ويلزمه اتباع الحق وأهله، لما فيه فلاحه وسعادته في الدنيا والآخرة.
تقدم الآية الكريمة السابقة، تعريفا شاملا لمفهوم البر الحقيقي، بعد نفي المفهوم الزائف، الذي كان سائدا لدى أهل الكتاب، ومن في حكمهم، المتموضع في المظاهر الشكلية، والمبالغة في توجيه وصرف وجوههم، قِبَل المشرق والمغرب، دون التوجه بالقلوب إلى الله تعالى، وإخلاص العبادات والمعاملات لوجه الله وحده لا شريك له، بعيدا عن الرياء والتباهي، بتلك الطقوس والشعائر الشكلية، المفرغة من معناها الروحي، وغايتها الأخلاقية الإنسانية، ليصبح بذلك البر في مفهومه الحقيقي – حسب الطرح القرآني – كما تنص عليه الآية السابقة، اسماً جامعاً لصحيح العقائد وحميد الخصال والمرضي من الأعمال الصالحة، التي تتقاسمها ثلاث ركائز، على النحو الآتي:-
الركيزة الأولى:- القيم العقائدية الإيمانية؛ التي تشمل جميع جوانب الإيمان الصحيح، التي لا يُقبل عمل الإنسان، إلا بعد اعتقادها واليقين بها.
الركيزة الثانية:- القيم الأخلاقية الاجتماعية؛ التي تشمل جميع أعمال الخير والإحسان والعطاء، وتعزيز قيم التكافل والتعاون والإخاء والتراحم، بين أبناء المجتمع، وفي مقدمتها الإنفاق – عامة – بمختلف مستوياته وأبوابه، والإطعام – خاصة – في مختلف وجوهه وطرقه.
الركيزة الثالثة:- القيم التعبدية الدينية؛ التي تشمل جميع العبادات والقربات، الهادفة إلى تطهير وتهذيب وتزكية النفس، وتعبيدها لله تعالى، وربطها بمنهجه وبحضوره الدائم، بما يضمن عدم انحرافها، عن صراطه المستقيم.
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جوامع البر والإحسان، وفي تفسيرها يقول السيد المولى بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- «قال الشرفي في (المصابيح) حاكيًا عن المرتضى (عليه السلام): «معناه: ليس كل البر تولية المشرق والمغرب من القِبَل التي أنتم تُمارون فيها ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فأخبر سبحانه بفنون البر وما يصح لهم به الإيمان ويكمل لهم اسم البر والإحسان» انتهى. ﴿الْبِرَّ﴾ الاتساع في الإحسان وفعل الخير، و﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ الجهات التي يولي إليها الكفار وجوههم ويزعمون أن ذلك هو البر، وليس البر ذلك، ولكن البر الإيمان بلوازمه وتوابعه التي يعملها»، وتلك هي الركيزة الأولى للبر، وأما الركيزة الثانية فهي كما يقول السيد المولى رضوان الله عليه:- «﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ أي ماله، كقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ﴾ [النازعات:40] أي نفسه ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ في حال حب المال، كالإطعام في حال حاجة المطعِم ـ بكسر العين ـ إلى الطعام، كما قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] وقال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92]». وفي هذا السياق يحدد السيد المولى، وجوه إيتاء المال وجوانب إنفاقه، الموضحة في الآية الكريمة، وضرورة إطعام الطعام، بوصفه الغاية الرئيسة من الإنفاق وإيتاء المال، بقصد إطعام ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، بما يقيم أودهم ويكفيهم، ويحفظ كرامتهم، وأما إيتاء المال في الرقاب، فالمقصود به العتق من العبودية، وهنا تظهر دلالة جديدة، حيث جُعل عتق الرقاب من العبودية، مقابلا لعتق الأنفس من الجوع، وفي كليهما إنقاذٌ من الهلاك، وميلاد حياة جديدة.
تشتمل الركيزة الثالثة، على مختلف القيم والطقوس الدينية والشعائر التعبدية، وفي مقدمتها إقامة الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم يتلوها بقية الأمور الدينية، التي تضمنتها الآية الكريمة، ويمكن القول إن التأكيد على إيتاء الزكاة، في مقام العبادات الواجبة، يدل على أن إيتاء المال، غير إيتاء الزكاة، ويؤكد ذلك سماحة السيد القائد، يحفظه الله بقوله:- «فالله سبحانه وتعالى عندما يقول: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، بعد أن سبق قوله: {وَآتَى الْمَالَ}، فهي في هذا السياق: في سياق الالتزامات المتعددة المتنوعة، المتعلقة بمالك، فعليك المبادرة بإيتاء الزكاة، بإخراجها، لا تحتاج إلى ملاحقة وضغط، وإحراج، وإلحاح، وإزعاج، ومشاكل، والبعض حتى قد يحتاج إلى السجن، أو يحتاج إلى ضغوط كبيرة، ولوم وتوبيخ وعتاب… وغير ذلك، أن يبادر بإخراجها حسب توجيهات الله فيها». ويضيف يحفظه الله قائلا:- «{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، يعني: حتى في الظروف الصعبة، وحتى مما يحب، وليس فقط ممن إذا أحرج في مجال العطاء، أصبح محرجاً، يجامل ويحاول في سياق مجاملته أن يخرج الشيء الرديء، الذي لم يعد راغباً به، أو لا يرى أنه أصبح بحاجةٍ إليه، لم يعد محتاجاً إليه، فيعتبر هذا شيئاً طارفاً، لا بأس سيخرجه مجاملةً».
ولذلك ارتبط نيل البر، بإنفاق أطيب المال، وارتبط تحقق كمال الإيمان، بالجود والإنفاق والإطعام، رغم شدة الحاجة، والظروف الصعبة، إلا أن نفس المؤمن لا تفقد خيريتها، وروحية البذل والعطاء، والمسارعة إلى التعاون على البر والإحسان، ولو بأقل القليل، لأن ذلك القليل له أهمية كبيرة، في واقع المجتمع الإنساني، حيث تتضافر الجهود، ويتحقق كمال الإيمان وتمام البر، على مستوى الفرد والمجتمع، خاصة في هذا الشهر الكريم المبارك، وما فيه من عظيم الأجر وجزيل الثواب، من الله تعالى للساعين في هذه الأعمال العظيمة.