اختص الله تعالى في أيام دهرنا مواسم تعظُم فيها الطاعة والعبادة والقربة لله تعالى، فهي مواسم جليلة ونفحات ربانية خصها الله لهذه الأمة -أمة محمد-، لرفعة الدرجات، والفوز بأعلى الجنات، فقد أخلف الله تعالى الأمة عن قِصر أعمارها ببركة في عملها ونفحات في أيام دهرها، وإن من أعظم المواسم الربانية والنفحات الإلهية شهر رمضان المبارك، فهو فرصة ذهبية لا يجب تضييعها أو التفريط بها، خاصة في ظل التطور التكنولوجي والذي نقل شاشات إضاعة الوقت من التلفاز إلى التلفون، الذي يحمله كل منا في جيبه، فإن لم نعٍ أهمية هذه النفحات فسوف تضيع علينا وتمر مر السحاب.
أهمية الوقت
وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم، فينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل.
نحن في وقت من أشرف الأوقات؛ إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، وفيه العتق من النيران، وفيه من الفضائل ما لا يسع الوقت لحصرها، ولكن المقصود هو الحث على استغلال هذا الوقت فيما يرضي الله-تعالى-.
ولقد أقسم الله -تبارك وتعالى- بالوقت في أكثر من سورة من كتابه، فقال تعالى: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى”، وقال تعالى: “وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ”، وقال تعالى: “وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى”، وقال تعالى: “وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”. ففي هذه الآيات يقسم الله- عز وجل- بهذه الأوقات: الليل والنهار، والضحى، والفجر، والعصر، وما ذلك إلا لبيان أهمية الوقت.
كما كان للسلف الصالح اهتمامٌ بالوقت؛ ومن ذلك قول الإمام علي عليه السلام: “إنّما أنت عدد أيّام، فكلّ يوم يمضي عليك يمضي ببعضك”، ويقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: “ما ندمت على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي”، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: “من تساوى يوماه فهو مغبون”، ويقول الحسن البصري رحمه الله: “أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم”. ويقول ابن القيم رحمه الله: “إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت يقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها”.
سارق الأوقات
ولأن وقت الإنسان ثمين، ونحن في خير الشهور، يجب أن لا نغفل على ما يضيع أوقاتنا ويسرقها منا، فإننا نضيع الكثير من وقتنا أمام التلفاز وعلى مواقع التواصل الاجتماعي “السوشال ميديا” كأنها قد وضعتنا بين كماشاتها، حسب الإحصائيات، الوقت الذي يمضي على شبكات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك، تويتر، واتساب، انستغرام، يوتيوب.. وإلخ يبلغ بمعدل يومي ست ساعات فالغالبية العظمى من الناس تقضي ست ساعات في مشاهدة الفيديوهات على الفيس بوك والمراسلات على الواتساب علاوة على ذلك يقضون أمام التلفاز ساعتين، يعني كل يوم نسرق من عمرنا ثماني ساعات، بالطبع فوائد التكنولوجيا كثيرة لا تعد ولا تحصى لكن من الواضح أن هناك الكثير من الأضرار إلى جانب الفوائد.
لقد حوت وسائل التواصل من أسباب التشويق والتنوع والإثارة والمتعة والإبهار في العرض وسائل جذب للمتابع تجعله يجلس مشدوها أمامها الساعات الطوال بلا ملل.. فهي بحق حارقة الأوقات، وسارقة الأعمار… وإذا لم ينتبه الإنسان لنفسه أضاع فيها عمره أو أكثر عمره وخاصة في شهر رمضان المبارك.
نعمة أو نقمة
لا شك أن وسائل التواصل هذه نعمة من نعم الله سهلت التواصل بين الأفراد، وقاربت بين المتباعدين، ويسرت التجارات والمعاملات، وسبل تحصيل المعلومات، كما تجاوزت العقبات والحواجز والحدود الجغرافية. وفتحت أبوابا من النفع والدعوة والخير لا يحصيها إلا الله… ومثل هذه النعم حقها أن تشكر ولا تكفر.. وشكرها يكون باستعمالها في الخير والنفع.
ولأنها جمعت بين طياتها الخير والشر، والطيب والخبيث، والصالح والطالح، والنافع والضار؛ فلابد من التحذير والتنبيه والاحتراز الشديد حال الاستخدام، حتى لا تنزلق الأقدام، ويأتي الشر من وراء الخير.. وحتى لا تتحول النعمة إلى نقمة والمنحة إلى محنة.
غنيمة الوقت
ومما قد يعين المرء على حسن اغتنام الوقت -وخاصة في رمضان- الأمور الآتية:
1.الخوف من الله تعالى، وخشيته، ومراقبته؛ فإنه يدفع الإنسان لعمارة وقته بالطاعات، والإقلاع عن المحرمات؛ ذلك أن من أسماء الله وصفاته: العليم والخبير والرقيب، وهذا مما يملأ القلب مراقبة الله في الحركات والسكنات، وإذا استشعر المؤمن أنه مراقب من قبل الله؛ فحري به أن لا يفتقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
2.تذكّر الموت؛ فإن الإنسان إذا تذكر الموت مع جهله بالزمان والمكان الذي سيفاجئه فيه، كان ذلك أدعى لحرصه على حسن الخاتمة؛ فيدفعه ذلك لشغل وقته بالصالحات.
3.صحبة الصالحين ذوي العقول السليمة، والهمم العالية، والأوقات المستثمرة.. الذين تُذَكِّرُكَ بالله رؤيتهم، ويزيد في علمك منطقهم، ويُذَكِّرُكَ بالآخرة عملهم.. الذين تحيا القلوب بذكرهم وإن كانوا أمواتاً، لا من تموت القلوب بمخالطتهم وهم أحياء.
4.معرفة قيمة الوقت وأهميته، وأنه محاسب عليه. يقول صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ) رواه الترمذي.
Prev Post