الاتفاق الموقع بين طهران والرياض برعاية صينية استحوذ على اهتمامات الدوائر السياسية العربية والدولية، كأول حدث سياسي إيجابي بين بلدين وسط منطقة ملتهبة، وهو ما جعل البعض يتوقع إعادة صياغة المعادلات الجيوستراتيجية ويفتح الطريق لدور سياسي صيني في منطقة رمال متحركة تعتبرها أمريكا من اهم مناطق النفوذ الأمريكي.
الثورة / أبو بكر عبدالله
جاء الاتفاق الإيراني السعودي بعد مباحثات استمرت ثلاثة أيام، لينهي قطيعة سياسية واقتصادية ودبلوماسية استمرت لسنوات بالنص على إعادة البلدين العلاقات الدبلوماسية والشروع بترتيبات لافتتاح سفارتي البلدين خلال شهرين، على قاعدة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية، فضلا عن بنود أخرى على صلة بالتعاون الاقتصادي والأمني.
وطبقا للبيان الثلاثي الصادر عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين السعودية وجمهورية الصين الشعبية، سيتم بموجب الاتفاق عقد اجتماع بين وزير خارجية البلدين لترتيب إجراءات تبادل السفراء وكذلك تفعيل اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والتقني والعلمي والثقافي والرياضي والشبابي وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني المجمدة منذ إبريل 2001.
صفحة جديدة إذاً من التفاهم والتعاون قد تطوي تجاذبات سياسية وأمنية عصفت بالمنطقة لسنوات ويتوقع أن تسقط فيها كل الحسابات القديمة لتعيد تشكيل المعادلات السياسة والأمنية في منطقة ملغومة بالأزمات وبآفاق مفتوحة على كل الاحتمالات.
على أن أهم انعكاس لهذا الاتفاق هو أنه يكرس وضعا مستقرا في المنطقة ، على اعتبار أن الحروب التي أشعلت بدفع أمريكي ودور سعودي كان بذريعة مواجهة إيران ، ليأتي الاتفاق ويفشل دفع المنطقة نحو الحروب وتدحرجها.
عوامل نجاح
الاتفاق الموقع ليس وليد اليوم فهو يعود إلى عامين منذ بيان قمة العلا السعودية التي وضعت الأساس لهذه التحركات وأسفرت عن جهود وساطة عراقية بين إيران والسعودية تمخضت عن 5 جولات من المباحثات وتلاها جولات أخرى لجهود وساطات على المسارين الإيراني السعودي، بالتوازي مع جهود الوساطات بين السعودية واليمن.
هذه الجولات وإن كانت عقدت النية على صفحة جديدة من العلاقات بين طهران والرياض، لكنها افتقدت خلال الفترة الماضية إلى الضامن الدولي المؤثر، ما منح جولة المباحثات الأخيرة في بكين قوة دفع أساسية أدت إلى توقيع الاتفاق، الذي يُرجح الكثيرون أن يكون أساسا متينا لحل ملف الأزمة اليمنية، بما يُعد انجازاً كبيراً للدبلوماسية الصينية في جهود إحلال السلام في المنطقة.
ما يدعو لذلك أن توقيع الاتفاق جاء بناء على قناعة طهران والرياض، بقوة الضمانات الصينية للمضي في فتح صفحة جديدة في سائر الملفات العالقة، اعتمادا على قدرات الصين في فرض الالتزامات كونها تمتلك اليوم كل الأدوات لضمان نجاح هذا الاتفاق ذو الطبيعية الاستراتيجية.
وبالنسبة للسعودية فإن الصين شريك اقتصادي هام بالنظر إلى حجم العقود النفطية السنوية مع السعودية الذي تقدر بحوالي 40 % من الاحتياجات الصينية للنفط، في حين أن الدور السياسي والاقتصادي الصيني أصبح اليوم ضروريا لإيران التي تبحث عن حليف دولي قوي لمواجهة العقوبات الدولية والأممية والأمريكية.
وأكثر من ذلك أن طهران والرياض ليس لديهما أي مخاوف من التدخل الصيني في ملفات الشرق الأوسط فكلتا الدولتين تريان التدخلات الصينية إيجابية كونها تضع في الاعتبار المصالح المتبادلة دون ضغوط سياسية ودون أي مشاريع أيديولوجية خصوصا بعد أن أكدت بكين بصوت مرتفع إيمانها بأن مستقبل الشرق الأوسط يجب أن يكون دائماً في أيدي دول المنطقة، وعدم وجود نية لديها بالسعي لملء ما يسمى الفراغ أو إقامة كتل حصرية وأكثر من ذلك احترامها لمكانة دول الشرق الأوسط وحقها في السيادة على هذه المنطقة.
نجاحات ومكاسب صينية
بهذه المبادرة نجحت الصين في التقدم خطوة باتجاه تنويع استثماراتها وطموحاتها الاقتصادية الواعدة مع دول الشرق الأوسط، كما تقدمت خطوات باتجاه إعلان نظام عالمي جديد يكون فيه للقوى الدولية من غير الولايات المتحدة حضورا في المشهد الدولي.
وفقا لذلك ظهرت الصين بهذه الخطوة وكأنها ترمم الأخطاء التي أدت اليها السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع دور روسي كان حاضرا مؤخرا باللقاءات والمباحثات الأخيرة التي جمعت المسؤولين الروس بالمسؤولين السعوديين، وتعديد صياغة العلاقات الدبلوماسية في الشرق الأوسط لتلافي أضرار التصدعات التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا.
وكان واضحا من البيانات الصادرة عن المسؤولين الصينيين أن بكين أرادت من خلال رعاية هذا الاتفاق أن توجه رسالة للعالم بأنها قادرة على لعب أدوار سياسية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا وأنها استطاعت أن تنجز ما فشلت في إنجازه الولايات المتحدة الأمريكية خلال عقود.
ومع ذلك فإن هذه النجاحات لم تكن بعيدة عن معادلة المكاسب السياسية الاقتصادية، فالاتفاق لم يكن سياسيا لمصلحة امن واستقرار منطقة الشرق الأوسط فقط، ففي جوانب منه كان دافعه اقتصادياً يصب في مصلحة الصين التي تحتاج إلى أسواق جديده في الشرق الأوسط وأفريقيا تواكب توسعها في الإنتاج الصناعي خصوصا وأن سياسة تحفيز الإنتاج التي انتهجتها خلال السنوات الماضية أدت إلى زيادة كبيرة في إنتاجها الصناعي فاقت المعدلات التي تحتاجها دول لعالم.
والمكاسب الصينية لم تكن بعيدة عن هذه المعادلة السياسية والأمنية، ففي مقابل ما ستقدمه الصين لكل من إيران والسعودية في حل واحد من أكثر الملفات الأمنية تعقيدا في المنطقة، ستحصل على امتيازات في ضمان تنويع مصادر إمداداتها من الطاقة لفترة طويلة ناهيك بالتسهيلات التي ستحصل عليها في مشروعها الكبير مع إيران البالغ كلفته 250 مليار دولار لمدة 25 سنة ناهيك عن احتياجاتها على عوامل استقرار تعبد الطريق أمام مشروعها للحرير والطريق.
الموقف الأمريكي
كان واضحا أن تطورات النفوذ السياسي الصيني في المنطقة أربكت الإدارة الأمريكية التي أعلنت موقفا حذرا حيال هذه التطورات خصوصا وأنها عكست تقاربا بين حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، مع غريمها الأبرز وهي الصين، التي بدت ماضية نحو فرض نفوذ سياسي جديد في منطقة تعتبر منطقة نفوذ أمريكي حصري.
هذا الموقف عبرت تصريحات منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي الذي أعلن أن السعودية أبلغت واشنطن بمباحثاتها مع إيران، وتأكيده أن واشنطن لم يكن لها أي دور في صياغته، وأن ما يهم واشنطن حاليا هو وقف الحرب في اليمن ومنع الهجمات على السعودية، بمقابل عدم وضوح الصورة فيما إن كانت الاتفاقية بين طهران والرياض ستؤثر على التطبيع الذي تدفع إليه الإدارة الأمريكية مع العدو الصهيوني والدول الخليجية.
هذا التصريح وإن كان قد اخفى الكثير، إلا أن أمريكا أرادت على ما يبدو محاولة لتسويق اشتراطات لنجاح الاتفاق بادعاء حرصها المعلن على إنهاء الحرب في اليمن.
ومع ذلك يصعب فصل الموقف الأمريكي عن الموقف من تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، فواشنطن أبدت في الآونة الأخيرة حرصا أكبر على حشد الدول المحايدة بالشرق الأوسط لصفها في مناهضة الحرب الروسية في أوكرانيا بالتوازي مع مساعيها إلى تخفيف حدة التوتر في منطقة الشرق الأوسط ليتسنى لها مواجهة التداعيات مع خصميها القويين روسيا والصين.
حسابات استراتيجية
حسابات المصالح الاستراتيجية لكل من إيران والسعودية كانت حاضرة بقوة في الاتفاقية الموقعة بين الجانبين، فالسعودية تسعى للتحوط من مخاطر توقيع اتفاق أمريكي إيراني في الملف النووي لا يراعي مخاوفها الأمنية، في حين تسعى إيران إلى تقويض المعادلة الأمريكية في المنطقة من خلال الحروب واستمرار التوترات ، وهي بهذا الاتفاق قد قطعت الطريق أمام دعاة الحرب ومشعليها بالاستفادة من مناخ التوتر السائد في العلاقات بين أمريكا وروسيا من جهة وأمريكا والصين من جهة ثانية ، وإحباط التهديدات التي تطلقها الولايات المتحدة والعدو الصهيوني بشن حرب عسكرية على إيران ، من خلال السعودية ودول عربية أخرى.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الرياض إلى تقليل فرص حصول إيران على أسلحة روسية وصينية حديثة يمكن أن تقلب موازين المعادلة الأمنية في المنطقة، فقد سعت من خلال هذا الاتفاق إلى ضمان النأي بنفسها عن معادلة الحرب الصهيوأمريكية على إيران ، والابتعاد من مسار التهديدات الصهيونية لمهاجمة المنشآت النووية في إيران.
وعلى الرغم من الترحيب الإيراني الواسع بهذه الاتفاقية والذي عبرت عنه العديد من الدوائر السياسية في طهران، باعتبارها خطوة استراتيجية هامة لتخفيف التوتر وإحلال السلام في المنطقة، فقد كان واضحا أن إيران سعت إلى منح الصين هذه الورقة كنوع من الضغوط التي تمارسها على الولايات المتحدة الأمريكية التي تنتهج سياسة العقوبات والحصار ضد الجمهورية الإيرانية.
بالمقابل فقد سارعت السعودية على التقاط الفرصة لتحقيق مكاسب بالنفاذ إلى معادلة التسليح الروسي لإيران، استنادا إلى قلقها من التقارب الروسي الإيراني الصيني، وبدت لذلك أنها استبقت خطوات هذا التقارب بمنح الصين ورقة إنجاز سياسي دبلوماسي في ملف السلام مقابل حصولها على ضمانات بعدم حصول أي تغيرات في موازين القوة مع إيران من جراء الدعم الروسي المنتظر.
آفاق الاتفاق
تنظر واشنطن إلى الاتفاق السعودي الإيراني من زاوية المخاوف من توسع النفوذ السياسي والدبلوماسي للصين في منطقة الشرق الأوسط، وما إن كان سيجعل من الصين أحد أدوات الحماية للسعودية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بما يعني اقتسام النفوذ في معادلة سياسية تحدث لأول مرة ، علاوة على أن الاتفاق يسقط ورقة التوترات التي تديرها أمريكا وتدفع المنطقة إليها.
ذلك أن المعادلة القديمة التي تقول إن الخليج ليس لديه خيارات في الساحة الدولية سوى الولايات المتحدة الأمريكية، تبدو أنها قد تغير وأصبحت الصين بهذا الاتفاق أحد الأطراف الأساسية في المعادلة الأمنية الخليجية، خصوصا بعد أن كشفت تداعيات الحرب في أوكرانيا أن النفوذ الأمريكي ليس مضمونا في كل الأوقات خصوصا بعد التوجهات التي أبدتها واشنطن لتوقيع اتفاق نووي مع إيران دون مراعاة المخاوف السعودية.
وسواء وقعت واشنطن الاتفاق النووي مع طهران، أو لم توقعه، فإن أكثر ما تأمله السعودية هو أن يقود اتفاقها مع إيران إلى بناء علاقات متينة مع كل من موسكو وبكين، قد تساعد في التأثير على الموقف الروسي حيال إيران ، من خلال الاستعانة بالنفوذ الصيني لترسيخ معادلة توازن ، والحصول على صفقات تسليح مشابهة للصفقات التي حصلت عليها طهران من الطائرات الروسية الحديثة سو 35 وأنظمة الدفاع الجوي أس 400 والتي أعلنت موسكو وطهران إبرام اتفاقيات بشأنها.
ومن جانب آخر لم يعد خافيا أن بكين تريد من هذا الاتفاق ببعده الأمني أن يكون أحد روافع مشروعها لشراكة اقتصادية استراتيجية صينية شرق أوسطية قوامها خارطة الحزام والطريق التي ترعاها الصين وتشارك فيها السعودية وإيران بفاعلية في ظل احتياجات الصين إلى أسواق جديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا تتيح لها تنويع الأسواق الاقتصادية بدلاً من الاعتماد الكامل على الأسواق الأمريكية والأوروبية.
وهنا يتعين الإشارة إلى أن الاتفاق بين إيران والسعودية لا يعني أن السلام سيحل بالمنطقة مباشرة، فتحقيق السلام في منطقة ملتهبة طالما كانت بؤرة صراع سياسي وعسكري امر صعب للغاية ويحتاج إلى الكثير من الوقت، غير أنه يمكن اعتباره خطوة مهمة على طريق تعزيز فرص السلام في المنطقة.
ولأن الاتفاق سيقود حتما إلى توسع النفوذ الصيني في منطقة الخليج فهو سيكون كابوسا جديدا للإدارة الأمريكية التي ستبذل جهودا من أجل محاربة النفوذ الصيني، ما يجعل الاتفاق عرضة لضغوط هائلة خلال الفترة القادمة.