صور من التربية الخاطئة
ذكر الشهيد القائد صوراً من التربية الخاطئة، وعبَّر عن انزعاجه منها، ومن تلك الصور:
1- تربية تشجِّع على التفرُّد في الرأي، والتشظِّي في الاتجاه، من خلال توظيفِ قاعدة متداولة بين الفقهاء هي قاعدة (كل مجتهد مصيب) في تأييد النزعة الفردية التي لا تؤمن بالاتجاه الجمعي ولا تساعد على تكوّن الأمة الواحدة، لقد اعتبر ذلك تربية خاطئة، ومنطقاً تفريقياً حتى في الأسرة الواحدة، والقبيلة الواحدة، والمدرسة الواحدة، يقول: «الآن تقوم تربية في بعض المناطق، في بعض المراكز، توجيهات لبعض الشباب، أنه ولا حتى ما أوجب الله على رسوله يمشي عليه، ما يمشي بعد أحد، ولا يتبع أحداً، ولا ينطلق وراء أحد إطلاقاً! هو فقط، وما طلع في رأسه، ما وصل إليه اجتهاده يجب على الله أن يقبله! هذا هو المنطق، يجب على الله أن يقبله».
وحذَّر من هذا قائلا: «هذا المنطق هو الذي سيفرِّق الأسرة الواحدة، دع عنك القبيلة الواحدة؛ لو ينشأ الطلاب في قبيلة واحدة على هذا النحو لما بقي لهم لا دين ولا حتى قَبْيَلة» (الإسلام وثقافة الاتباع).
2- كذلك حذّر من التربية التي تزعم أنَّ الجهاد حالة استثنائية، يقول: «كان الجهاد أساسا من أساسيات الإسلام كحالة ثابتة، وحالة تربوية من البداية، وليس فقط حالة طارئة استثنائية، مثلما يقول البعض: إن الأساس هو الدعوة، دعوة، دعوة، فإذا ظهر عدوٌّ فلا بأس من الجهاد، قلنا: لكن أصبح مؤكداً: أن الطرف الآخر يقف أمام دين الله، وأن مسألة أن يكون قادراً على مواجهة ذلك العدو، وقادراً على حمل هذه الرسالة هو أنه لا بد من تربية جهادية، وحركة جهادية، وهي قضية واسعة جداً، ويجب الإعداد لها من أول وهلة، وليس فقط حين يأتي العدو، أي: أن تدعو عشرين سنة، فإذا ظهر في سنة واحد وعشرين عدوٌّ ففي تلك السنة تحاول تربيهم تربية جهادية!.
هي مسألة تربوية من أول سنة وليس من سنة واحد وعشرين، من أول سنة، هذه مسألة تربوية، ولهذا تجد الحديث عن الجهاد، والإنفاق داخل آيات القرآن بشكل واسع» (سورة البقرة – الدرس الحادي عشر من دروس رمضان).
3- التربية الهزيلة نتيجة ضعف التفاعل مع تعليمات القرآن الكريم، حينما لا يتمتع المتعلم بالمواصفات الإيمانية التي ذكرها القرآن الكريم لأولياء الله، يقول الشهيد القائد: «قد تتعلم وتتخرَّج وتخدم اليهود من حيث لا تشعر، لأنك حينئذٍ لا تتمتع بحكمة، ليس لديك رؤية حكيمة، لا تتمتع بالمواصفات الإيمانية المواصفات التي ذكرها الله لأوليائه في القرآن الكريم، التي تمنحهم القوة، وتمنحهم الحكمة، وتمنحهم زكاء النفس، فتضِلُّ وأنت تحمل القرآن، وهذا من أسوأ الأشياء، ومن أعظم الأشياء إساءة إلى القرآن وإلى الله أن تحمل القرآن الكريم، أن تتعلم القرآن الكريم، أو تُعلم القرآن الكريم، وفي نفس الوقت تبدو إنساناً هزيلاً ضعيفاً في مواقفك من أعداء الله» (الثقافة القرآنية).
4- التربية المُهينة من قبل الحكام للشعوب هي تربية أنتجت نفوسا منحطَّة، يصف الشهيد القائد ذلك بقوله: «يعيش الناس نفوساً منحطَّة، النفوس المنحطَّة في الأخير لا تعود جديرة بأن تنهض بالمسؤولية، لهذا لاحظ الآن الشعوب العربية الآن كيف واقعها؟ أليست شعوباً ضُرِبَ تكريمها؟ ضربت كرامتُها من قِبل حكامها حتى في الأخير لم يعُد موجودا عندهم عزة نفس، ولا كرامة بأن يكونوا مستعدين أن يواجهوا العدو الآخر مهما كان سوؤه أبداً؟ نفوس قد رُوِّضت على الإذلال والإهانة والاحتقار حتى أصبحت لا تبالي يحكمها من يحكمها» (سورة البقرة – الدرس الحادي عشر من دروس رمضان).
لماذا لم تثمر التربية أمة واحدة؟
تطرَّق الشهيدُ القائد في مواضع متفرقة إلى الأسباب التي لم تجعل التربية تُثْمِرُ أمَّةً واحدة، وذكر من تلك الأسباب:
أولا: أول المحْق وأول الضلال – على حد قول الشهيد القائد – هو أن يذهبَ المعلِّمُ أو المرشدُ ولا يبني الشعورَ بوجوبِ أن يكون الناسُ أمة واحدة. وحين لا يرسِّخ المعلِّم أو المربِّي في المجتمع مسؤولية أن يكونوا أنصار الله، وأن يكونوا أمة واحدة، وأن يكونوا كيانا واحدا، فهو معلِّم فاشل، ولأن تلامذِتَه ومحبيه وأتباعَه لن يكونوا عندئذ متآلفين ولا متحابِّين ولا صادِقين ولا أمناء، ولن يتدخلَ اللهُ نهائياً في موضوعهم (لقاء المعلمين).
ثانياً: أن من يضرب الناس هم أولئك المعلِّمون الذين يقدِّمون نظراتٍ خاطئةً عن الدين، أو بشكلٍ غلَط». ولعل من تلك النظرات النظرة الانكفائية حول موضوعاتٍ معيَّنة في القرآن الكريم كالعبادات، ونبذ ما وراءها ظهرياً، يقول الشهيد القائد: «إذاً فليفهم كلُّ طالب أنه عندما نأتي إلى المدرسة ونتعلَّم فقد تسمع أنت كلمات من هنا وهناك: (يتعلَّم أحدنا ما أوجب الله، وما له وما عليه فقط). ومطبوعٌ في ذهنك وذهنِ من يحدِّثُك (مالك وما عليك) أن تعرِفَ كيف تتوضأُ وكيف تصلي وكيف تصوم وكيف تزكي وتحج، وانتهى الأمر.
لكن هذا غير سليم؛ لأن (مالنا وما علينا) هو القرآن، باختصار هو: القرآن الكريم مِنْ أَلِفِهِ إلى يائه، فعندما نتصوَّر بأنَّ ثقافة القرآن الكريم هي شيءٌ زيادة على (مالك وما عليك) فتقول: أنا أريد أن أقرأ كتاباً فقهياً لأعرف من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه، وحينئذٍ أقول: قد عرفت (مالي وما عليّ).
هذا غير صحيح، هذا جزءٌ عرفتَه مما ينبغي أن تعرفه، تعرف كيف تتوضَّأ كيف تتطهَّر، كيف تصلي كيف تصوم، كيف تزكي ، كيف تحج، كيف تتعامل مع أفراد أسرتك مع والديك، مع إخوانك، كيف تتعامل مع جيرانك، كيف تتعامل مع المجتمع من حولك.
ولكن يبقى المجال واسعاً جداً، في مجالات كثيرة جداً هي أكثر الواجبات، وهي الواجبات المهمة التي إذا لم نلحظْها ونتثقف حتى نعرف كيف يمكن أن نصل إلى أدائها سنفقد أيضاً قيمة هذه العبادات التي نقول نريد أن نتعلمها» (الثقافة القرآنية).
ثالثاً: بالإضافة إلى تضييع الأسس، حيث الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، حين نقدِّم بعضَ الدين ونشتغل فيه، ونتركُ بعضَه، فيضربُنا فراغُ الجانب الذي لا نحرِّكه في الجانب الذي نحركه؛ لأن منفعة هذا مترتِّبةٌ على حركة ذاك (لقاء المعلمين).
رابعاً: ضعف استشعار الخطر وانعدام التخطيط المسبق، حيث عاب الشهيد القائد الغفلة وضعف الوعي بالمرحلة، وضعف استشعار الخطر المحدق، بخلاف أعداء هذه الأمة، يقول عن ذلك: «إذاً فلنقُل لأنفسنا نحن أيضا، ولسنا فقط نتحدَّثُ عن الآخرين, عن الوهابيين أو غيرهم, بل نتحدَّثُ أيضا عن أنفسنا أنه يجب ونحن نعلِّم في مراكزنا، في مساجدنا، في أيِّ مكان أن نعي هذه المرحلة التي نحن فيها.
والشيء المؤسف أنها ـ فيما يبدو ـ نفسية عربية عند العرب جميعا، أنهم لا يحسبون أيَّ حساب للخطرِ المقبِل عليهم إلا بعد أن يطأهم ويقصم ظهورهم .. لكن أولئك هم .. إذا ما رأوا أن شيئا فيه خطورة عليهم محتمَلة احتمالاً ولو واحد في المائة, ولو بعد مائة عام, هم من سينطلقون للقضاء على منابع ذلك الخطر» (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الدرس الثاني).
خامسا: لاحظ الشهيد القائد أيضا قضية الاجتهاد في الآراء، واعتبرها من الأخطاء التي عرقلت بناء أمة. وقد تقدم ذلك في صور التربية الخاطئة.
سادساً: لم تنتفع الأمة بعظة التاريخ وكتبه، فأصبحت عبارة عن مقروءات لمجرد القراءة (لقاء المعلمين).
سابعاً: أرجَعَ الأمر إلى نصابه حيث قال: «إذا لم ننطلق انطلاقة قرآنية سنغلَط في كل شيء، سنغلط في كل شيء» (الإسلام وثقافة الاتباع).
Prev Post
Next Post