التربية في فكر الشهيد القائد ” 4 “

د. حمود عبدالله الأهنومي

 

مصادر التربية
يتبيّن من خلال محاضرات الشهيد القائد أن الدين بجميع مصادره هو مصدر التربية، ومع ذلك فحري بنا أن ننص على بعض هذه المصادر على نحو مفصَّل.
أولاً: القرآن الكريم
كثف الشهيد القائد نقده للأمة الإسلامية حول علاقتها بالقرآن الكريم، وعابها بإهمالها له، وذكر أنه الكتاب الوحيد الذي لم يُؤْتَ حقه في التأمل والاهتداء في تاريخ البشرية، وبالنظر إلى بعض النصوص من محاضراته حول ذلك، تتضح محورية القرآن الكريم في مصادر التربية لديه رضوان الله عليه، فهو يقول:
-«القرآن الكريم يمنحك ثقة بالله، وتدور معارفه فيما يقدِّمه من معرفة عن الله سبحانه وتعالى بالشكل الذي يرسِّخ لدى الإنسان شعوراً بعظمة الله سبحانه وتعالى وحباً لله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت ثقة قوية بالله» (الثقافة القرآنية).
-«القرآن في رؤيته بالنسبة للجانب المعرفي، .. يجعل الحركة في سبيله مدرسة، يحوِّل الحياة بكلِّها إلى مدرسة، كلَّها، يرى الدنيا عبارة عن فصل دراسي، كلها عبارة عن فصل دراسي، كل أحداثها، كل متغيراتها، كل حركة الناس فيها، كلها تعطي معارف، معارف واسعة جدا» (مديح القرآن – الدرس الدرس السادس).
-«القرآن هو متَّجِهٌ ليبنيَ الأمة بناء صحيحا، أمة نفوس أفرادها نفوس زاكية، (تطلِّع) أمة زاكية، أمة حكيمة، وقوية» (دروس رمضان المبارك – الدرس السادس عشر).
كان الشهيد القائد دائمَ السؤال: لماذا نجح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إدخال أهل الجزيرة العربية إلى الإسلام في غضون عشر سنوات، بينما فشل المتحركون في الحقل الإسلامي اليوم؟ وهو سؤال طالما طرحه في أكثر من محاضرة.
لقد ردَّ ذلك إلى الابتعاد عن القرآن الكريم، وإلى ضعف الاهتداء به في الحياة عموما وفي الجهاد خصوصاً.
ولهذا كانت أهمية حركة الشهيد القائد أنه من خلال القرآن الكريم جرّأ الأمة اليمنية على اقتحام قضية الجهاد، التي كادت أن تُنْسَى في الواقع، وباتت مصطلحا معيبا، يُتَدَاوَل على استحياءٍ، وخوفٍ، وهلَعٍ، وها هو الآن أصبح مصطلحا مِلءَ الدنيا وملء السمع والبصر في المعرفة والوجدان والسلوك.
لقد جعل الشهيد القائد للقرآن الكريم محورية أساسية وهيمنة مركزية في العملية التربوية ضمن رؤيته العامة لتربية الأمة والمجتمع، واستنهاضهما بالمشروع القرآني الإسلامي، ووضع القرآن الكريم باعتباره مصدرا أساسيا في صلب العملية التربوية، بل واعتبر كل المصادر الأخرى إذا لم تقترن بالقرآن الكريم فاشلة وأن مصيرها إلى الفشل.
يرى أن كل أعمالنا يجب أن ترتبط بالقرآن الكريم؛ لأنه كتاب هداية، يهدي الناس إلى ما يريده الله منهم، وفيه المنهجية القرآنية التي هي أكثر نجاعة ونجاحا من غيرها، وفيه الأساليب المناسبة، والسلوكات المساعدة، التي تكفي للوصول إلى الكمال.
يعلِّلُ ذلك بأن القرآن شخَّصَ الإنسانَ والناسَ بشكل كامل، شخّص إشكاليات المجتمع بشكل واضح (لقاء المعلمين)، وحين يقول لك الله: إن القرآن كتاب هدى، فافهم أن لديه منهجا، ووسائل، وأساليب منهجية يرسمها، وحتى في أسلوبه العام، في الخطاب العام يرسم لك منهجا، دعويا، تربويا.
وإذا كان الله قد تكفَّل بالهداية والإرشاد، فمعنى هذا أن الهداية بالتعليم والإرشاد تحتاج إلى مناهج وأساليب، وسلوكات معينة، وآليات معينة، وأن من تكفل بأن يهدي هو أيضا متكفِّل بأن يرسم المنهج، ويرسم الطريقة، ويرشد إلى الوسائل وإلى الأساليب.
ويكرِّر بأن في القرآن المناهج والوسائل والأساليب الكافية للهداية، وفيه مناهج لزمانٍ أوسعَ من أيِّ زمانٍ أنت فيه، ولوضعيةٍ أوسع من الوضعية التي أنت فيها (لقاء المعلمين).
يقول أيضا في (لقاء المعلمين): «كل أعمالنا يجب أن تكون مرتبطة بالقرآن الكريم، بعناوين ثقافة قرآنية، وعلمٍ قرآني، وتحرُّكٍ قرآني، القرآن الكريم هو الذي لم يَحْظَ في تاريخ الأمة بأن يرجِعَ إليه الناسُ فعلا بشكل كامل، وبشكلٍ جادٍّ، ولهذا يجب أن يكون هناك اهتمامٌ كبيرٌ بالقرآن، والقرآن جعله الله نورا، وهدى، وموعظة، وفي نفس الوقت جعله الله سلاحا». «القرآن كتابٌ مرتبط بالحياة، مرتبط بالحركة، والاهتداء به تدخُّل إلهي».
وفي واقع التعامل مع القرآن وجَّه نقدا لاذعا لوزارة التربية والتعليم والحكومة حول استمرارهم لعقودٍ في المناهج التجريبية، وعزى ذلك إلى أن واضع استراتيجية المناهج لم يهتدِ بهدى الله سبحانه وتعالى، وأن كل من يبتعد عن هدى الله لا بد أن يغلط، لا سيما في الجوانب الثقافية والفكرية، والقانونية، ولم يدَّخِر من ذلك النقد حتى مراكز الشباب المؤمن، مستهجِنا ما كان يطرحه البعض من قولهم: (عندنا زحمة برامج) إذا ما دعاهم إلى الاهتمام بالقرآن الكريم (الإسلام وثقافة الاتباع).
وأضاف: «إذا لم تعتمد القرآن، وأنت تعمل منهجاً للمراكز هذه، إذا لم تعتمد القرآن وأنت تثقف الناس في هذه المراكز، إذا لم تعتمد القرآن وأنت تخاطب الناس في مساجدهم، إذا لم تعتمد القرآن وأنت تكتب، وأنت تحقق، وأنت تسجل، وأنت، وأنت، ستضِلُّ، وستغلط».
ورأى أن الأمة ما زالت أمة أمية «فقدوا الحكمة، فعادوا إلى الأُمية، .. عدنا من جديد إلى الأمية على الرغم من وجود القرآن الكريم فيما بيننا، على الرغم من أننا نقرأ ونكتب، ومدارس متعددة وصحف ومجلات ومكتبات في الشوارع ومكتبات عامة في الجامعات ومراكز علم كثيرة جداً، مدارس أساسية، مدارس ثانوية وجامعات ومراكز علمية ومكتبات تملأ الشوارع، وكتب على الأرصفة أيضاً تُباع، ومجلات كل يوم تصدر أو كل أسبوع، لكن لا يمكن أن يُخْرِجَ العربَ من الأمية إلا القرآنُ الكريمُ فتصبح أمة ثقافتها أعلى من ثقافة الآخرين، مواقفها حكيمة، رؤيتها حكيمة» (الثقافة القرآنية).
دروس تربوية من القرآن الكريم
عرض الشهيد القائد بعض الأمثلة على الدروس التربوية من خلال القرآن الكريم؛ فمثلاً عرض في محاضرة (لقاء المعلمين) طريقة لقمان في تربية ولده، وهو ينفُخُ فيه روحَ المسؤولية، ليَشْعُرَ أنه مسؤول، والتركيز على تحمُّل المسؤولية، على حمل القضية، قضية الدين، قضية النصر لدين الله كما قدَّمها القرآن الكريم.
واستطرد في ذلك محلِّلا ضياع المسلمين في جميع المجالات، بأنه بسبب إضاعة المسؤولية، وترك عزم الأمور، وترك حزم الأمور التي وردت في سياق هذه القضية التربوية.
وحول آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾(المائدة:94) يذكر أنه ابتلاء إلهي ﴿لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾(المائدة:94) عندما تلقى مثلا صيدًا سمينًا، وليس هناك إلا أنت، وقد يمر من عندك، وأنت محرِم، أو في الحرم وقد يمر من عندك، ولا أحد هناك ستستحي منه، أو سينهاك عنه، تحاول أن تمسكه وتذبحه، لتحصل على غداء دسِم، قد تأتي ابتلاءات من هذا النوع مثلما حصل لبني إسرائيل، قد يأتي ـ مثلا ـ صيدٌ قريب يمرُّ من عند أحدنا، هذا ابتلاء فعلا فيه مشاق، التي يسمونها مشاق، وهي عملية تربوية في الواقع.
إنك متى ما أمسكْتَ نفسك هنا تُعْطَى هدى، ويزداد إيمانك، وفعلا يستنير قلبك، مع أن القضية سهلة، هل هو حِمْلٌ ثقيل أن يمر من عندك صيد غزالة مثلا، أو أي صيد سمين، فتتركه؟ .. هل هي تأتي قضية مماحكة ـ على ما يسمونها ـ فيجعل غزالة سمينة تمر من عندك ليقهرك، لا، ولكن ﴿لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ فيتجلى في نفسيتك أنك تخاف الله، والإنسان بحاجة إلى الحالة هذه.
وقد تأتي الابتلاءات أشياء عادية؛ إذ ليست الابتلاءات أحمالا ثقيلة، قد يكون الابتلاء قضية بسيطة جدًا في واقعها، لكن تتعامل معها بما يدل على أنك تخاف الله، فيحصل لها أثرٌ كبير في نفسيتك، يعني: هي قضايا تربوية في الواقع، لها أثرها الإيجابي عليك، أو تعرض عنها فتكون معرَّضاً لعقوبة (سورة المائدة – دروس رمضان المبارك – الدرس الثالث والعشرون).
وسنستكمل بقية مصادر التربية في الحلقات المقبلة،،

قد يعجبك ايضا