كان الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر – وهو من درس التاريخ والنظريات الاستراتيجية ودرسهما لطلاب الكلية الحربية بعد تخرجه – أكثر من يدرك حقيقة الأهداف الاستعمارية من وراء زراعة (الكيان الصهيوني) في قلب الجغرافية العربية، وهو الذي قال ذات يوم عن (منظمة التحرير الفلسطينية أنها وجدت لتبقى) وقال (إن الكيان الصهيوني هو طليعة متقدمة للقوى الاستعمارية التي اضطرت لمغادرة منطقتنا ولكنها أوجدت هذا الكيان لتجعل منه حارسا لمصالحها وهيمنتها وبالتالي فإن منظمة التحرير الفلسطينية هي طليعة النضال العربي في مواجهة الاستعمار وأعوانه)..
بغض النظر عن كل ما قيل في الزعيم (ناصر) وعن (ديكتاتوريته، وطموحه في الهيمنة على الوطن العربي وأفريقيا، وعن أخطائه، وهزائمه، وعن.. وعن)، ليذهب البعض بكل حقده وكراهيته (لشيطنة) هذا الزعيم وعهده، فيما البعض الآخر ذهب لدحض كل هذه المزاعم وبأسلوب عاطفي ما كان عبد الناصر نفسه _رحمة الله عليه _أن يتقبله من محبيه لو كان على قيد الحياة، لأن عبد الناصر في النهاية إنسان وليس (ملاكا) كما حاول تصويره محبوه، و كذلك ليس ( شيطانا) كما حاول تصويره خصومه الذين تجمعوا عليه من اليسار واليمين والوسط وكل المتضررين من عهده الذين لم يستوعبوا رؤية هذا القائد العربي وأحلامه تجاه وطنه مصر وشعبها وتجاه أمته العربية والإسلامية وتجاه أفريقيا وشعوب العالم الثالث..!
هذا القائد الذي لم يخذل شعبه ولم يخذل أمته، ولم يهزم في معركته الحضارية والوجودية في مواجهة الاستعمار لا في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956م ولا في عدوان 1967 م، لكن من هزم في هذه المواجهات هم أولئك الذين ناصبوه العداء والخصومة الذين لم يصدقوا حدوث ما حدث عام 1967م ومنهم من (صلى لله حمدا وشكرا على هزيمته)، ومنهم من ارتد عن ثوابته القومية ومبادئه فاتجه بعضهم نحو تبني ثقافة (الإلحاد) وآخرين نحو تبني ثقافة (التوحيد)، وهناك من اتجه نحو (الانعزالية القطرية)، وبعضهم ذهب ليرتمي في أحضان القوى الاستعمارية، فيما عبد الناصر واصل السير بثبات نحو أهداف الأمة وخاصة في ما يتعلق بالمشهد في فلسطين..
وأعتقد أن الأشقاء في فلسطين الذين عاشوا مرحلة وعهد هذا القائد يتمنون اليوم أن يبعث الله قائدا بحجمه ومكانته ويرى فلسطين بعيون عبد الناصر وبمشاعره القومية.. عبد الناصر الذي لم يؤمن يوما بفكرة أن (منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد) فيما يتصل بتبعات التحرير ومواجهة العدو الصهيوني، بل كان مؤمنا بقومية المعركة وأن تحرير فلسطين هي مهمة كل العرب دون استثناء، جاعلا من منظمة التحرير ممثلا للشعب العربي في فلسطين أمام المحافل والمنظمات والجهات الدولية، لكن في ما يتصل بمواجهة العدو فإن نصيب الشعب العربي في فلسطين يتمثل بوحدته الوطنية والتفافه حول أمته التي عليها واجبا قوميا مقدسا في المعركة لأن العدو الذي زُرع في فلسطين لم يزرع من أجل السيطرة على فلسطين ونطاقها الجغرافي المعروف بل زرع لاستهداف الوجود العربي بكل نطاقاته وقدراته وإمكانياته وليفرض عليه قيم التخلف والتجزئة والحيلولة دون توحيد قدراته أو حشد طاقاته أو تكامل أقطاره بأي شكل من الأشكال وفي أي حدود كان هذا التكامل..؟!
إن المحاور الاستعمارية التي ترسم خططها وبرامجها المستقبلية لعقود قادمة وربما لقرون لم تزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة رأفة بـ (يهود) العالم الذين فرمهم (النازيون بالأفران)؟ ولم تأت بهم لأن فلسطين هي (أرض الميعاد)، وما يرافق هذا المفهوم من أساطير كاذبة وحكايات خرافية، لكن زرع هذا الكيان لأهداف استعمارية أدركها الزعيم جمال عبد الناصر وعبر عنها في كل مواقفه ورؤيته السياسية والفكرية، خاصة أن هذا الكيان تم التخطيط لزراعته بالتزامن مع انهيار ما كان يسمى بدولة (الخلافة الإسلامية) التي كانت قد حصرت بيد (الأتراك) منذ قرابة أربعمائة وخمسين عاما، ليتخلى الأتراك عن سيادتهم على الجغرافية العربية مقابل انتمائهم للمنظومة الأوروبية في ذات الوقت الذي ذهبت به القوى الاستعمارية في إعادة تقسيم الجغرافية العربية وترسم حدود كياناتها وتنصيب حكام هذه الكيانات، باستثناء فلسطين التي اختيرت من قبل الاستعمار لتكون الضامن على عدم وحدة الجغرافية العربية أو وحدة كياناتها أو تقدمها الحضاري بأي شكل من الأشكال وفي سبيل إبقاء هذه المنطقة _الوطن العربي _ وكياناته القطرية تدور بصورة أو بأخرى في فلك القوى الاستعمارية، وإذا حاول أي قطر من هذه الأقطار التعبير عن هويته القومية وعن عروبته ورغبته في التطور والتقدم والتعامل الندي مع المحاور الاستعمارية يكون من السهل التصدي له استعماريا، لكن الهدف الاستراتيجي استعماري يبقى هو الحيلولة دون اتفاق العرب في ما بينهم أو توحدهم بصورة ثنائية أو جماعية لتبقى خيرات الأمة وثرواتها بيد المحاور الاستعمارية ويبقى الكيان الصهيوني بمثابة ( الورم السرطاني) في الجسد العربي الذي يستعصي علاجه إلا بوحدة وتكامل المنظومة العربية التي يصعب بل يستحيل وحدتها أو تكاملها لأنها قامت ضد الوحدة والتكامل، بل وجدت لتكون أدوات وظيفية تؤدي دورا عضويا في خدمة المستعمر بعد دور الكيان الصهيوني الذي يستمد ديمومة وجوده من وجود هذه الأنظمة التي أوجدتها ورسمت حدودها واختارت غالبية حكامها ذات القوى الاستعمارية التي أوجدت وزرعت الكيان الصهيوني في فلسطين..!!