بيوت الناس كلهم زجاجٌ

يكتبها اليوم / عبدالعزيز البغدادي

 

 

لهذا العنوان علاقة موضوعية بالمثل القائل: (من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة) والمثل يحث الإنسان على العودة إلى الذات والنظر إلى حاله قبل أن يفكر بالتعدي على غيره، ويتوقع رد فعل مماثلا وربما أكبر، تذكرت هذا المثل وأتذكره كلما لاحظت حالة من حالات الاستكبار وبالأخص بعض المتسلطين، لأن السلطة أغنى مصادر الاستكبار ومن اغتر بها فقد غاب عن رشده، أبرزها حالة من يحاول فرز أصول الناس لتحديد أحقيتهم في الحكم ليدني هذا ويقصي ذاك متناسياً كل النصوص من القرآن والسنة وكل الكتب المقدسة وأقوال المفكرين والفلاسفة وأصول علم القانون وقواعده وكلها ترى أن حقيقة الإنسان هو أنه من تراب، مهما كان مستوى صدق الروايات من كذبها، هذه الحقيقة يتذكرها الناس كلما شموا رائحة التراب عند حفر قبر أحد أقربائهم ولكنهم سرعان ما ينسون أو يتناسون عند مغادرة المقبرة.
وفي إطار محاولات الفرز العرقي والطائفي يحاول البعض تشخيص أعراق الناس، فهذا من أصول فارسية وذاك من أصول تركية وثالث من أصول يمنية أصيلة، وهذا الحال تجاوزته مجتمعات متحضرة كثيرة ولهذا فإن طابع وحدتها الوطنية يغلب عليه التماسك لأن صلاحيات الحكام محددة ويخضعون للمساءلة، أما في البلدان المتخلفة فإن من يمسك بزمام السلطة لديه من الصلاحيات ما يمكنه من الحكم وفق أهوائه لأن الناس محكومون بالخضوع للحاكم من باب النفاق غالباً، ولهذا رأينا كيف يتقلب الناس من حال إلى حال مع كل وضع جديد، فالحكام أنصاف الآلهة يعشقون النفاق ويكرهون من يقول الحقيقة لأنها تلزمهم بالعمل على إحقاق الحق بما يحتاجه من جهد، بينما المنافقون يزينون للحاكم أعماله واعتماده على الحق الإلهي المزعوم في تولي السلطة وفي ذلك إضرار بالمجتمع وهو مصدر النزاعات منذ أكثر من 1400عام في بلداننا العربية وهو كذلك مصدر قلق للحاكم نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم لأن لكل صاحب دعوى من الدعاوى المتقابلة في الحق في الحكم حكاية ورواية وتأصيل يعتمد عليه في التدليل على حقه في الحكم ودحض بقية الروايات والحكايات وبناء جدران وأسوار يتمترس خلفها لمنع الطرف الآخر من اقتحامها والمساس بقدسيتها المزعومة، وهكذا تكون السلطة مصدرا للاقتتال والتناحر واختلاق الأزمات والحروب المتوالدة والمبتكرة تسيّر أصحابها الغرائز وغياب الوعي، ومع ذلك تصبح أشبه بالدين أو بديلاً عن الدين الذي يفترض أن يقوم على التسامح والرحمة والعالمية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
هؤلاء المدججون بأمراض العصبيات البلهاء يتجاهلون مفردات الخطاب الإنساني ويجتزئون من الروايات ما يرونه معززاً لمواقعهم الوهمية ومعينا لهم على إقصاء الآخر بحجة أنه الأصل وغيره طارئ أو أنه نبتة شيطانية يجب اقتلاعها هذا ما قاله ويقوله المتعاقبون على الحكم عن غيرهم، وفي ظل هذا المناخ قد يؤخذ الأبرياء بجريرة الظلمة.
إن كل عنصري أو مناطقي من أي دين و أي مذهب أو منطقة يخرج عن إطار الإنسانية بل عن الفطرة السليمة ، ولهذا يؤخذ البريء بالمذنب وذلك من علامات الهمجية ، فالعدل ليس بحاجة إلى فلسفة أو تبرير وهو في الدنيا يقوم على معايير علمية لا تبرر للظالمين ظلمهم وللفاسدين فسادهم بحجة الهدي والإصلاح، وأبرز ما يميز المسؤولية القانونية عن المسؤولية الدينية والأخلاقية عنصر الإلزام الدنيوي في المسؤولية القانونية لأنها تنظم أداء السلطة وفق معايير محددة وواضحة وكونها أمانة في عنق من يتحملها ويترتب عليها جزاء ليس من حق أي سلطة العفو عنها لتعلقها بالحق العام والحق الخاص فالحلق العام لا يعفى عنه إلا وفق قواعد ومعايير محددة في القانون أما الحق الخاص فلصاحبه وحده حق العفو عنه، وليس من المطلوب ولا من الجائز من حاكم أو مسؤول أن يعامل الناس بالنوايا فمن يحاسب على النوايا هو الله لعدم قابليتها للقياس والبحث والتقييم وهي متروكة لله عالم الغيب والشهادة، أما عدالة الإنسان في الدنيا فتقوم على الشهادة ومختلف الأدلة المادية أي على المعايير العلمية لا على التكهنات ولا علاقة لها بسوء أو حسن الظن، لأن ادعاء الحاكم أنه يرى بنور الله باب من أبواب الظلم الواضح.
إن على اليمنيين اليوم في ظل هذه الظروف أن يدركوا خطورة ما وصل إليه حال الناس وحال الوطن، وأن لا تلعب بهم الأهواء والإشاعات ونزعات التسلط والأنانيات متعددة الألوان، وأن يتعاملوا مع أي شكل من أشكال الحرب النفسية بوعي وإدراك، وفي كل الأحوال فإن أكثر الناس شجاعة هم أحرصهم على السلام، وأعظمهم أخلاقاً أكثرهم وعياً بأهمية بناء الأوطان وبعداً عن زرع الأحقاد والتفرقة بين الناس ونشر البغضاء بينهم والاتجار بالدماء والمعاناة، وأبلغ الناس حكمة من يعرفون الطريق إلى السلام الحقيقي وكيف يسعون إليه وليس من يعرقل مساعي الوصول إليه بضغط من أنانيته المتوحشة وشهوة السلطة المقيتة.
بيوت الناس كلهمُ زجاجٌ وأصلهمُ تراب من ترابِ

قد يعجبك ايضا