في إحدى المناظرات التي تشبه مصارعة الثيران أو الديوك أو أي كائنات محكومة بالغرائز والتي يديرها بعض البشر ويتعيشون منها قال أحد المتناظرين لمناظره الذي يفترض أنه سعادة المستشار القانوني بنبرة فيها شحنة من الدعشنة المكتومة كشكل من أشكال التٌّقية: اسمع يا هذا أنا أدعوك لاحترام القانون الذي تمثله ولو أنني أكره القانون.
صعقني قوله ولكني رأيت فيه ملامح الداعشية الناعمة فتذكرت أنها تتعدد بتعدد ألوان الطيف أي أنها سلوك متعدد وليس عنواناً متجمداً فمنها الخشنة، ومنها الناعمة نعومة الأفعى، ويدخل ضمن ألوانها كل من يكره القانون أو يرفضه بحجة أن القانون كما يرددون ليس قرآنا، وهؤلاء إما يجهلون القانون، والإنسان كما يقال عدو ما يجهل، أو يتجاهلونه والتجاهل طمعاً في السلطة أشد أنواع المكر السيئ فالجاهل لا يفقه هدي القرآن وفن تأويله ومعاني الإيمان التي لا تحد كما قال فريد الدين العطار النيسابوري صاحب كتاب منطق الطير: (الله أكبر من الإيمان وأكبر من الكفر) أي كل ألوان الكفر والإيمان ومذاهبهما، وما أتعس مدعي الإيمان من الماكرين الذين تسيرهم الغرائز وتتحكم بهم الأهواء وشهوة السلطة التي لا تورِّث سوى القبور والأحزان.
وكل من يعادي القانون عدو للدين بصورة أو بأخرى ليس لأن القانون دين وإنما لأنه الأداة الدنيوية لحماية الدين والمتدينين السلميين من تغول مدعي الإيمان التكفيريين الإرهابيين، وأنا هنا لا أقصد فقط أولئك التعساء الذين يفجرون أنفسهم في الأسواق والأماكن العامة استهدافاً للأبرياء أو يقدمونها قرباناً لأمرائهم أو قادتهم في حروب عبثية أيا كانت هُوياتهم ومذاهبهم أو هُويات أعدائهم ومذاهبهم ودعاواهم الباطلة وكل أسمائهم ومسمياتهم مهما التصقت باسم الجلالة.
نعم إن عدو القانون عدو للدين لأن ما نعلمه أن الدين يدعو إلى السلام والمحبة ويحمي الجميع من الجميع ويحمي غير المتدين من المتدين كما يحمي المتدين من غيره ويحميه من نفسه والقانون هو الأداة التي تحول هذه المبادئ إلى قواعد وفق صيغ دقيقة قابلة للتطبيق وملزمة للكافة.
القانون يهيئ إقليم الدولة التي تحتكم لقواعده كي يكون وطناً للجميع متديناً وكافراً وملحداً وغير ديني، ويحكم الجميع بمنطق المساواة ويدعو لترك أمور الغيب لله وجعل ما للناس رهن إرادتهم ورقابتهم ورعاية مصالحهم ليؤدوا رسالتهم الإنسانية في الحياة، ويمنع قيام محاكم التفتيش على عقولهم وضمائرهم، لأن أول ضحايا هذه المحاكم هو الدين الذي نشأت هذه المحاكم باسمه، ومن يحترم الدين حق الاحترام فإن احترام القانون هو المدخل لوقف كل إنسان عند حدوده بدون غموض ولا مواربة ولا كهنوت، ويكبح كل أشكال الأنانيات التي تستبيح كل المحرمات باسم الدين أو باسم القائد أو الزعيم الرمز الذي قد تغيبه بهرجة السلطة عن رؤية الحق والحقيقة لأن كثيراً من مقتضيات الإيمان تستند إلى الغيب، والغيب من اختصاص الله وليس من اختصاص البشر.
القانون يبين بدقة شروط الحاكم وطريقة الوصول إلى الحكم وكيف يدير أمور الدولة في الدنيا، وتخضعه قبل غيره للحساب الدنيوي، أما الحساب الأخروي فيخضع له الجميع كذلك ولكن وفق معايير وضوابط إلهية غيبية لا اختصاص للبشر في تحديد مداها، ولكنها ترتبط برحمة الله التي وسعت كل شيء ومشيئته التي لا يعلمها غيره.
وأما أمور الدنيا فتخضع للمعايير الدنيوية وما يقرره العلماء والخبراء المتخصصون في كل مجالات الحياة، فليس كل من يدعي العلم بالدين يفهم في الاقتصاد والسياسة والعدالة والقانون والأمن، القانون يعتمد على الخبرات وعلى الموازنة بين المصالح العامة والخاصة وفق قواعد ومبادئ علمية، ولا يمنع أن يستهدي من يضع هذه القواعد بهدي الله ولكن هدي الله لا يقبل الادعاء، ومن يفقه معنى قوله تعالى : (ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) يدرك أن ذلك يعتمد على سعة رحمة الله لا على ضيق العذاب والصلافة واستحلال الأموال والدماء والأعراض بحجة تطبيق شرع الله، وحكم الإنسان للإنسان مبني على الاتفاق والرضا والتسامح وليس على الغلظة والخشونة والقسوة، وهذا هو الفرق بين الدعوة إلى الله وبين الحكم باسم الله وقد رأينا أبشع أنواع الدعشنة في ما أبدعته داعش في العراق وسوريا وبعض مناطق في اليمن من ألوان القتل والعذاب بالذبح والحرق والغرق مع التكبير والتهليل، ولا فرق بين داعش الخشنة و داعش ذات الملمس الناعم والشعارات البراقة المتعددة فكلا النوعين يجمعها الحكم باسم الله وسلب الإنسان حريته وكرامته وتحت هذا العنوان تختلف الشعارات والأسماء وتتفق المسميات.
من تولّى الطغاة حباً وذلاً * غاب عنه الهدى وغاب الرشادُ.